يؤمن السواد الأعظم من الناس بأساطير اقتصادية تحوّلت مع تعاقب السنوات وزخم الترويج الإعلامي والأيديولوجي إلى مسلّمات تداعب المخيال الشعبي، وتحاكي أحلاماً غير قابلة للتحقيق.
وتكمن خطورة تمييعها وانتشارها في قدرتها على تشويه الفهم العام لعمل الدورة الاقتصادية والمالية، وعلى رفع سقف التوقعات الشعبية و دفع الفواعل المحلّية والوطنية في تبنيها كأسس راسخة في بناء برامجهم الانتخابية والتنفيذية.
وإذ يعاني الشعب السوري اليوم من أزمة اقتصادية خانقة، مسببها الأول والرئيس سياسات النظام الاقتصادية والأمنية الفاشلة، أنتهزُ هذه الفرصة المؤلمة لكشف بعض هذه الأساطير في سلسلة من المقالات، سعياً لترشيد فكرنا الاقتصادي والسياسي ولتحفيزنا على الخروج بحلول عملية وفعّالة، بعيداً عن الغوغائية والأحلام الوردية.
الأسطورة الأولى، ولعلّها الأقل ترسّخاً شعبياً، أكذوبة الاكتفاء الذاتي التي طالما تغنّى بها الأسد الأب، ودعواها بسيطة ومتناسبة مع بيع وهم استثنائية سورية. يمكن للشعب السوري أن يسخّر موارده الطبيعية والبشرية لإنتاج كافة حاجاته الأساسية محلّياً، فيما يستغل فائض انتاجه لاستيراد ما ينقصه من كماليات بندّية تنمي رأس المال الوطني وتصونه من تلاعب “القوى الاستعمارية”.
يفترض مسعى تحقيق الاكتفاء الذاتي، سيطرة الوحدة السيادية على مقدرات وموارد طبيعية كافية ووفيرة يؤهلها لمقاومة أي جهود دولية أو إقليمية لعزلها فيما لو فرضت عليها. وتتضمن مدخلات هذه المعادلة وفرة المياه العذبة، والأراضي الزراعية، والمعادن، ومصادر طاقة باطنية متنوعة، بالإضافة لمنافذ بحرية، وموارد بشرية متدربة لتشغيل عجلة الإنتاج.
وفي الحقيقة تتطابق عناصر الاكتفاء مع تعريف الجيوسياسي السائد للدولة، الذي لا يضمن أي استقرار أو فعّالية للسيادة دون توفر هذه الشروط جميعاً. لذا نجد جذور هذه السياسة في الفكر اليساري الاشتراكي، ولكن تُسمع أصداؤها لدى التيارات الإسلامية والقومية كذلك، ويشترك الجميع بإيمانهم أنها اللبنة الرئيسة في تعزيز الاستقلال السياسي للبلاد.
وإذ أن الجغرافية حقيقة مطلقة لا يمكن تجاوزها على الرغم من التقدم التكنولوجي، فإن افتراض الاكتفاء الذاتي يحتم على الدولة السيطرة على رقعة جغرافية واسعة تلبّي كافة احتياجات مواطنيها، وهذا ما لم يتحقق في وقتنا المعاصر إلّا للولايات المتحدة بعد أن وصلت للمحيط الهادي.
والاستثناء الأمريكي، كما يحلو للعديد من مفكري أمريكا وصف بلادهم به، لم يحصل بسلام ودون عناء ولم يكن ليتشكّل لولا استخدام القوة العسكرية في اخضاع المجتمعات المحلية الأصيلة أو في هزيمة القوى الاستعمارية الأخرى التي استوطنت القارة، وهذا منهج الدول الإمبريالية الأوروبية التي دفعت بجيوشها المتطورة لاحتلال أراض بعيدة يفصلها بحار ومحيطات عن الوطن الأم، سعياً لتمكين الاكتفاء الذاتي وبالتالي صيانة الأمن القومي والأهم من ذلك كله تنفيذ وعد الرفاه والتنمية للمواطنين.
أنهت الحرب العالمية الثانية نظرياً شكل السيطرة العسكرية المباشرة للدول الإمبريالية، ورسمت خارطة سياسية جديدة مكوّنة من دول حديثة لبعضها أسس قومية، ولبعضها خصوصية تاريخية، ولقلة قليلة عنصر ديني أو مذهبي، فيما قاوم عدد من القادة قوى التشظّي واستغلوا قطبية النظام العالمي لنحت كيانات متعددة الأعراق والأديان بشكل اصطناعي وبفرض قوة السلاح سعياً لتحقيق حلم السيادة. وتوّلدت عن هذا التدافع عدّة ديناميكيات تستدعي الوقوف عليها ولو سريعاً لمحاولة فكفكة عقد ما تعيشه دولنا المشرقية من بؤس.
الأولى أن دول متعددة الأعراق والأديان فشلت في امتحان الوقت وانتهى بها الأمر إمّا بالتفكك النووي كما حصل في يوغوسلافيا، أو بتمييع السلطة المركزية كما حدث في البرازيل وإندونيسيا.
أمّا الديناميكية الثانية فهو حجم الوهن الذي أصاب القوى الإمبريالية التقليدية التي قاومت حركات الاستقلال والتحرر، وتأخرت بالتالي في استبدال قوتها العسكرية بقوتها “الناعمة”، والمثال الأبرز فرنسا وروسيا، مما يجعلها مأزومة على الدوام. والديناميكية الثالثة والأخيرة، فَولادة دول نووية بسيادة ناقصة تستمد سبل استمرار قادتها في سدة الحكم من تفاهمات سياسية واقتصادية مع قوى إقليمية ودولية أخرى مقابل الولاء والتبعية. أمّا المفارقة فهو سعي جميع هذه الدول إمّا للوصول إلى درجة الاكتفاء الذاتي أو التعويض بفرط الإنتاج بقطاعات مخصصة لسد عجز التبادل التجاري الدولي.
وهنا لا بد من استكمال وقفة التأمل هذه للإجابة على سؤال محدد، هل يمكن لجميع دول العالم تحقيق أي من الهدفين؟ بالطبع لا، النظام العالمي القائم رغم تحوّلاته لا بد أن ينتج مجموعة من الدول النافذة و”الرابحة”، تقابلها مجموعة مضاعفة من الدول الضعيفة “الخاسرة”.
وإذا ما عدنا إلى سورية، فإن مجموع مدخلات هذه المعادلة تشير بدون أدنى شك إلى رصيد سلبي، ولن ينتج عن حلم تحقيق الاكتفاء الذاتي إلا تبديد الموارد المتوفرة، وتخريب فرص تطوير سياسات رشيدة تحافظ ما أمكن على رأس المال المجتمعي ريثما تتغير قواعد اللعبة الدولية.
يدور في مخيال الشعب السوري العديد من الأساطير حول غنى بلادنا وقدرتها الذاتية على التطور وتوفير سبل الرفاه والتنمية لجميع المواطنين، بحر من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، كميّات خيالية من السيليكون الصافي في شرق الفرات، آبار نفط دفاّقة وحقول حنطة وقمح تسد الأفق تحت سيطرة الكرد، وماء عذب يشق البلاد شمالاً وجنوباً، وقطن من النخب الرفيع، وزيت زينون يشفي المريض من كل سقم، وفاكهة وطير ولحم مما يشتهي كل العرب والترك والفرس.
إلا أن لغة الأرقام لا تكذب، فالكميات متواضعة، والإنتاج بأدنى مستوياته تاريخياً، وكل وعود الوفرة تنتظر التأكيد والاثبات، والأهم من ذلك كله، لم تقم الحرب إلا بكشف عورتنا، فالمصيبة كانت قادمة لا محالة وعلى بعد بضع سنين.
سياسات البعث الاقتصادية ومن قبلها الوحدة مع مصر، أسست لتدخل جائر ومباشر للدولة في إدارة كافة القطاعات الإنتاجية باسم تحقيق العدل وتحقيق الاكتفاء الذاتي. وفي حين قد يحسب لها القضاء على إقطاعية المدن ومضاعفة مخرجات القطاع الزراعي كمّاً ونوعاً، فقد كان لهذه “الإنجازات” كلفة عالية غير ضرورية ومؤذية.
أولاً، تم التشجيع على نشأة زراعات ذات أثر سلبي على البيئة، كالقطن عموماً والقمح خصوصاً في بعض الأقاليم على حساب الزراعة البعلية، وأدّت هذه الزراعات إلى شح في مياه الري والشرب.
ثانياً، تركزّت سياسات الدعم الحكومي لقطاع الزراعة في توفير مدخلات الإنتاج بأثمان أقل من سعر السوق عوضاً عن تطوير سبل الإنتاج وتحسينه، وذلك لتعزيز اعتمادية المزارعين على الدولة واحكام سيطرتها عليهم.
وثالثاً، رأى رجال البعث قانون الإصلاح الزراعي مجرد فرصة للقضاء على طبقة من رجال الرأسمالية خوفاً من منافستهم لاحقاً، فبُددت العديد من رؤوس الأموال بدون أي أدنى طائل كما أحبط القطّاع الخاص والمستثمرون وأسس لمظلومية جديدة دون حلّ غيرها بشكل فعّال.
ومن نافلة القول عند الحديث عن سياسات الأسد والبعث الاقتصادية، أنه بنفسه بدأ بالتخلّي عنها في التسعينات وأكمل ابنه هذه المسيرة في العقد الأول من حكمه. ونستحضر هنا مجموعة من السياسات التي أسست إلى عهد جديد في إدارة اقتصاد البلاد عنوانه رأسمالية المحاسيب، شجعت على توغل رجال أعمال مقربين من القصر الرئاسي في قطاعات “سيادية” كالتعليم والصحة والطاقة والاتصالات تحت مظلة التشاركية بين العام والخاص، وأسست لصناعات جديدة في القطّاع الخدمي كالمصارف والبنوك الخاصة والسياحة والعقارات، كما دفعت بعجلة التجارة الدولية فانفتحت الأبواب المؤصدة سابقاً أمام حركة الاستيراد من أوروبا وآسيا.
والجدير بالذكر في السياق، أن ما شهده قطّاع الإنتاج الصناعي من تحسّن ملحوظ في آخر عقدين قبل اندلاع الثورة السورية، سببه الرئيس هو عودة رؤوس الأموال الخاصة إلى البلاد وليس نتاج سياسة حكومية كما يروّج له.
وإذ اعتبرنا أن تنشيط القطاعات الخدمية على حساب القطاعات الإنتاجية ردّة على هدف تحقيق الاكتفاء الذاتي، فينبغي لنا أيضاً أن نتلفت إلى آثاره وأسباب تبني رجالات النظام له.
أولاً القطّاع الخدمي لا يتطلب حجماً كبيراً من الاستثمار في البنية التحتية، كما أن عائد استثماره سريع وقصير. ثانياً احتكاره ميّسر من قبل إقرار قوانين تتحكم بتطبيقها وتنفيذها مؤسسات الدولة. ثالثاً لا يستدعي اشراك قوة بشرية وعاملة هائلة وتستدرج الطبقة المتعلمّة والمدنية. رابعاً ترشّح فوائده على المجتمع بشكل محدود مما يسهّل حصر أرباحه وتداولها بين طبقة محدودة من رجال الأعمال.
لا شك أن للحرب أثر مدّمر على الاقتصاد السوري، وإذ ندين بشكل واضح جرائم كل من استغل تراجع سيطرة النظام لنهب وتخريب الممتلكات الخاصة والعامة، فإن آلة النظام العسكرية من دبابات وطيارات وصواريخ هي المسؤولة الأولى عن الخراب الذي أصاب البينة التحتية وما تبعها من خسارات القطاع العام والخاص.
وكذلك الأمر بما يتعلّق بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أيضاً لها دور لا يمكن التغاضي عنه في تأزيم الوضع الاقتصادي والتضييق على الشعب السوري، ولكن تعنت الأسد ورفضه لتقديم أي تنازل رمزي في العملية التفاوضية مع المعارضة هي من بررت ردّة فعل المجتمع الدولي. ولكن، إذا ما أردنا أن نتعرف جيداً على مكان الخلل، فلا بد لنا أن نعي أنه بدأ قبل عقود بسياسات أوجدها وطبقها الأسد الأب والابن، و استدراك ما تبقى من اقتصادنا يبدأ بتفكيك والتخلي عن أساطير لا يمكن تحقيقها. وأخيراً ما ينطبق على كامل سورية ينطبق على بعضه، سواء كان شمال شرق البلاد أو تحت وصاية أجنبية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت