لم تكن المرة الأولى التي يحتدم فيها الجدال حول محكمة كوبلنز، لمناسبة إصدارها حكماً بالإدانة على المتهم/الشاهد إياد غريب؛ سبق أن ثار جدال حاد حول شهادة أحد الشهود في قضية المتهم الآخر أنور رسلان. في المرتين، انزلق فوراً الجدال من أحد طرفيه إلى اتهام الطرف الآخر بالعمالة للأسد، ليتبادل الطرفان التهمة التي قيلت بوضوح، أو نصّت على اتهام الطرف للآخر بخدمة الأسد عن قصد ووعي.
في المرة السابقة بادر محام ناشط في قضية كوبلنز إلى اتهام الذين شككوا في إحدى الشهادات بالعمالة للأسد، مع أن تشكيكهم “في حده الأدنى” يجوز اعتباره نوعاً من التمرين أمام المنظمات المساعدة لهيئة الادعاء وللمدّعين الشخصيين، إذ سيبادر محامو أنور رسلان إلى تكذيب العديد من الشهود، وإلى استغلال أي ضعف في أية شهادة. التنبيه المبكر إلى ضعف في إحدى الشهادات أفضل من الانتظار حتى قيام الخصم باستغلاله للانقضاض على شرعية المحاكمة ككل، هذا إذا اعتبرنا النوايا صافية من الجميع، واعتبرنا أنهم يتوخون خدمة المسار القضائي.
هذه المرة، مع إدانة إياد غريب، ارتدت التهمة على المحامي ذاته الذي اعتبر الإدانة انتصاراً على نظام الأسد، في حين اعتبر منتقدوه السياق القضائي الحالي برمته خدمة للأسد لأنه ينال أساساً وبالضرورة من منشقين عنه، ولا أفق لجر الباقين في خدمة مخابرات الأسد وشبيحته إلى المحاكم الأوروبية. عزز من النبرة الغاضبة للمنتقدين أن أصحاب المنظمات الحقوقية المنخرطة في المسار القضائي لم يتواضعوا بإقامة حوار هادئ يشرح وجهات نظرهم، ولم يتواضعوا بإصدار بيانات توضح ما يرونه في العملية القضائية من فوائد تدين نظام الأسد، بل تراوحت ردود أفعالهم بين الغضب والغطرسة.
نعود للتوقف عند هذا الجدال لما للمسار الحقوقي من أهمية في ما آل إليه الوضع السوري، فهو المسار الذي يُفترض أن يحافظ على قدر مقبول من الاستقلالية، إذا لم يستطع القائمون عليه المحافظة على استقلاليتهم التامة. ننطلق من أن المعارضة السياسية صارت برمتها رهينة الخارج وفقدت رصيدها لدى السوريين، وكذلك هو حال الفصائل العسكرية بصرف النظر عن الرأي من موضوع العسكرة ككل، ولم يبقَ من عزاء لهم سوى محاولة تثبيت الجرائم التي ارتكبها الأسد وعدم تضييعها مع محاولات إعادة تدويره، وبوصفه المجرم الأكبر من دون إغفال جرائم سلطات الأمر الواقع الأخرى في السنوات العشر الماضية. السبل المتاحة واقعياً ونسبياً تقتصر على القليل المتاح قانونياً وإعلامياً عبر الكتابة والفنون، وبلا إبراز بطولات وهمية هنا وهناك.
إما أن تكون المنظمات الحقوقية الناشطة جزءاً من القضية السورية، أو أن المسؤولين عنها يرون أنفسهم خارج القضية بوصفها همّاً سياسياً، ويرون أنفسهم والهيئات التي ينشطون فيها أدوات تقنية لإنفاذ القانون. فإذا كانوا يضعون أنفسهم ومنظماتهم في الإطار التقني فقط، لن يكونوا مطالبين أمام السوريين بتبرير لعمل الماكينة التي يقودونها، ومن المستحسن أن يحافظوا على انفصالهم عن ذلك الجمهور فلا يتهمون بعضاً منه بالعمالة للأسد، لأن هذا اتهام سياسي يجردهم من زعم العمل التقني فحسب، ويبيح لآخرين مبادلتهم الاتهام على الأرضية “المؤسفة” ذاتها.
وإذا كان هؤلاء يرون أنفسهم ممثلين لقضية، من المستحسن ألا ينظروا بتعالٍ إلى آخرين يُفترض أنهم شركاء في القضية، والبعض منهم هو الأقرب إليهم على الصعيد الفكري. التعالي على الآخرين بزعم امتلاك معرفة تقنية يفتقر إليها “الجمهور” لا يعفي تلك “النخبة” الحقوقية من واجباتها إزاءه، من قبيل تقديم شروحات لنهجهم القانوني وآفاقه. الأهم من هذا الجانب التقني احترام ذلك الجمهور، وعلى نحو خاص احترام حساسيته تجاه العدالة، فعدم امتلاك المعرفة الحقوقية التقنية لا يعني إطلاقاً عدم امتلاك حساسية عالية تجاه العدالة، ولولا هذه الحساسية تحديداً لما ثار سوريون بسطاء “وفق مفهوم النخبة” ضد الأسد.
يتحمل الناشطون الحقوقيون مسؤولية أكبر عن انحدار الجدال المتعلق بعملهم، مع الانتباه إلى الضفة الأخرى وجهوزية أعداد متزايدة من السوريين لتخوينهم. يتحملون المسؤولية بتحولهم إلى “طبقة” منفصلة عن الإطار الأوسع، على غرار ما حصل للمعارضة، وعلى غرار العديد من الظواهر التي تبرز كاستفادة لأصحابها من القضية السورية بدل خدمتها. في بيئة جاهزة لشتى أنواع سوء الفهم أو التفاهم، سيعزز هذا الانفصال أسوأ صورة لدى “الجمهور”، وسيعزز النزوع إلى الانعزال والإحساس بالمظلومية والنخبوية معاً لدى الطرف الآخر.
نظرياً، لا يصعب جَسْر الهوة بين الطرفين، على اعتبارها ناجمة عن سوء تفاهم غير متعمد. الواقع يقول لنا غير ذلك، لقد قاله لنا من قبل في جميع الخلافات العاصفة بين أبناء القضية الواحدة، قاله عندما تغلبت خلافات على التناقض الرئيسي مع الأسدية، وعندما استُخدم تفككهم وتهافتهم كذريعة لبقاء الأسد وعدم وجود بديل منظم وموحد ولو على برنامج عمومي فضفاض. أخيراً، قال الواقع ما هو مؤسف جداً عندما لم يأتِ أول حكم في محكمة أوروبية بالثقة بالمسار القضائي، بل أتى بانعدام الثقة بين السوريين.
في ثمانينات القرن الماضي، عندما تكاثر عدد المعارضين العراقيين في سوريا، راح السوريون يتندرون على عداوات أولئك المعارضين والاتهامات الملاصقة لها. العمالة لصدام حسين كانت التهمة الأثيرة، وبحسب رواجها يخلص المستمع إلى أن أولئك المعارضين “إذا صحّت اتهاماتهم” جميعاً عملاء لصدام حسين، وقد أرسلهم متنكرين إلى الخارج لمطاردة أعداء لوجود لا وجود لهم، أو “في أحسن الأحوال” هم قلة نادرة جداً لا يستحقون إرسال ملايين من عملاء المخابرات لمراقبتهم.
يسير السوريون حثيثاً إلى ما آلت إليه الاتهامات القديمة للمعارضة العراقية، ليصبحوا جميعاً أعداء الأسد وعملاءه في آن واحد. بشار نفسه سيُدهشه ذلك العدد المهول غير المنتظر من عملائه المزعومين، ولعله سيشعر بالفخر بامبراطوريته الممتدة في المنافي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت