قبل أيام، استولى هاجس دعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، على الحديث المُعلن للمسؤولين الاقتصاديين في دمشق، بعيد اجتماع حكومي مصغّر، عقده رأس النظام، بشار الأسد، وخصّصه لبحث هذه القضية. وقد سبقت هذا الاجتماع، مؤشرات جليّة، تدلّ على وجود توجّه لدى حكومة النظام، نحو تفعيل نشاطها المُعلن، في هذا الشأن.
وانقسم المحللون، بين السخرية والتقليل من قيمة هذا التوجّه، وبين من قرأه بأنه يستهدف تلقف أموال دعم مشاريع التعافي المبكّر، الأممية، في ظل يأس النظام من قدوم استثمارات ضخمة إلى البلاد، بعد تباطؤ مسار التطبيع العربي وتهاوي الرهانات عليه، في دمشق.
ويمكن التماس المعذرة للساخرين مما بدا أنها دعاية يريد النظام ترويجها، عبر إطلالة الأسد شخصياً، كونه يشرف على استدارة الحكومة نحو هذا النوع من الاستثمارات، “التي تشكل أساس اقتصادات معظم دول العالم”، حسب ما نُقل عنه. فالدافع الأول للسخرية، يتأتى من اكتشاف الأسد لعلّة الفشل الحكومي في دعم الاستثمار الصغير ومتناهي الصغر، والحاجة لتفعيله، بغية “إنعاش الاقتصاد السوري”. وفي سياق الفذلكة اللغوية المعتادة لرأس النظام، نجد أن العلّة من وجهة نظره هي “غياب الهيكليات الإدارية السليمة”.
لذا شدّد الأسد في توجيهاته لوزرائه على “تصحيح الهيكليات وتطوير البنية التنظيمية للمؤسسات والهيئات الموجودة المعنية بالاستثمار والمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر”. أما ترجمة ما سبق فجاءت على لسان وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، الذي كشف للجمهور السوري، مفاجأة من العيار الثقيل، مفادها، وجود 20 جهة للتخطيط، و27 جهة للتنظيم، و40 جهة للتنفيذ، مرتبطة بترخيص المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر في مناطق سيطرة النظام. أي بكلمات أخرى، كانت حكومة النظام طوال السنوات الفائتة، تضع العصيّ في دواليب هذا الصنف من المشاريع. ولتجاوز هذه العصيّ لا بد من إعمال الرشاوى، مما يقلل من جاذبية هذا الصنف من المشاريع، نظراً لأن القائمين بها، أساساً، من ذوي الملاءة المالية المتواضعة.
هذه التعقيدات البيروقراطية المقصودة، “اكتشفها” الأسد، اليوم فقط. وهذا ما روّج له الإعلام الموالي، وصولاً إلى استخدام إحدى وسائله، تعبيراً دينياً، لوصف دور الأسد في ذلك، بعنوان: “هل حانت قيامة المشاريع الصغيرة..؟”. وهكذا “يبعث” الأسد، المشاريع الصغيرة في سوريا، من رقادها. هذا التوصيف كان الدافع الثاني للسخرية من جانب معلّقين. فسوريا بلدٌ عُرف طويلاً بالنشاطات الاقتصادية الصغيرة، التجارية والصناعية والزراعية والخدمية، والتي عادةً ما تأخذ صفة الأعمال العائلية، التي تطور بعضها ليتحوّل بالفعل، إلى مشاريع متوسطة وكبيرة، وصولاً إلى خارج الحدود السورية.
وقد تكون أحلك الحُقب، في تاريخ النشاطات الاقتصادية الصغيرة في سوريا، هي حُقبة حكم نظام الأسد، وتحديداً، العقد الأخير. وبصورة خاصة منها، السنوات الخمس الأخيرة، التي شهدت تقييداً غير مسبوق لأي نشاط اقتصادي، مهما كان حجمه، في البلاد، لصالح أثرياء وأمراء الحرب، المتصاهرين مصلحياً مع السلطة.
وفيما يتحدث الأسد عن تمكين المشروعات الصغيرة وتطويرها، “بحيث تستطيع أن تكبر وتتحول لاحقاً إلى مشروعات متوسطة وكبيرة”، تفرض حكومته قيوداً على سحب الأموال من المصارف، وعلى حركة الحوالات الداخلية بين المحافظات، وعلى الاستيراد، وعلى حركة بيع وشراء العقارات، التي تشكّل محركاً مهماً لدوران العجلة الاقتصادية، ناهيك عن فرض الضرائب والرسوم الجائرة بصورة جعلت المُنتَج المحلي أغلى من نظيره المستورد، من دون أن ننسى القيود على نقل البضائع بين المناطق بسبب الحواجز وما تفرضه من أتاوات، وأحياناً، مُصادَرات. فأي مشروعات صغيرة يمكن أن تنمو، في أجواء كهذه؟
لكن في مقابل التقليل من قيمة هذا التوجّه الحكومي في دمشق، نجد قراءات أخرى. ففي نهاية العام المنصرم، أصدرت هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، الدليل التعريفي لهذه المشروعات. فيما تعمل حكومة النظام الآن، على بناء سجّل وطني للمشروعات، يتضمن دليلاً وتصنيفاً للأنشطة الاقتصادية يتلاءم مع دليل الأنشطة المعتمد لدى الأمم المتحدة. وهو تفصيل لافت، لم تخفه الحكومة، بل أكدّه وزير التجارة الخارجية، في تصريحاته الأخيرة.
وبهذا الصدد، يلفت تحليل لمركز “جسور” للدراسات، إلى أن هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، عقدت منذ إستحداثها نهاية عام 2015، اجتماعات عديدة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لوضع صيغة تعاون مشترك بينهما، خاصة بعد إدراج مشاريع التعافي المبكر في قرارات مجلس الأمن للمساعدات الأممية إلى سوريا.
وكان لافتاً، أن النظام أنهى تكليف المدير العام لهيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بعد أيام قليلة من اجتماع الأسد مع حكومته. وتم تعيين مديرة جديدة للهيئة. مما يؤشر إلى جدّية اهتمام رأس النظام، بهذا الملف. وهو اهتمام يمكن عطفه على حقيقة أن الاقتصاد السوري، رغم كل ما يعانيه، يقوم بشكل أساسي، على المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر. ووفق أرقام رسمية، لا تشكّل المشاريع المتوسطة أكثر من 4% من الاقتصاد السوري.
وهكذا نخلص إلى أن النظام اليائس من استدراج استثمارات خارجية ضخمة، يراهن اليوم على استدراج استثمارات أممية تحت عنوان “دعم مشاريع التعافي المبكّر”، وبهذه الغاية، يحاول تكييف هيكليته الإدارية والتنظيمية. فـ”قيامة” المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر، يُراد لها أن تصب في خانة خدمة مصالح هذا النظام، ومؤسساته. وألا تخرج عن نطاق قدرته على استغلالها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت