الاستجابة للزلزال..آلاف الاستشارات النفسية و”هواجس” لم يتخطاها الناجون
حاول أحمد بعد شهر من وقوع زلزال 6 شباط/فبراير 2023، العودة إلى منزله، إلا أنه لم يستطع إكمال ليلته الأولى في المنزل رفقة عائلته، وقرر حينها الانتقال إلى منزل جده، في مخيم للنازحين قرب قرية صلوة بريف إدلب الشمالي.
يقول أحمد، الذي أقام في بلدة رام حمدان لسنوات بعد تهجيره من ريف إدلب الجنوبي، إن “الشعور باهتزاز البيت من حولي لم يفارقني طيلة ساعات من مكوثي في المنزل.. قررت حينها بالتشاور مع عائلتي أن المنزل لم يعد صالحاً للسكن”.
يوضح أحمد لـ”السورية.نت” أن “فوبيا المناطق المرتفعة والإقامة فيها تملّكني منذ وقوع الزلزال، ولذلك بدأت بعد شهرين ببناء منزل أرضي في منطقة كفرلوسين”.
بعد سنة على وقوع الزلزال، يستقر أحمد في منزل جديد، سقفه من الأغطيه (الشوادر)، مرجعاً ذلك لكونه “أقل تكلفة وأكثر راحة للنفسية.. مهما صار من هزات ارتدادية ما في خطر على العائلة”.
و”لم تلتئم الجروح النفسية” بعد عام من الزلزال، بحسب ما عنونت منظمة “أطباء بلا حدود” تقريرها الصادر في الذكرى الأول لزلزال شباط، وهي منظمة دولية تقدم خدمات واسعة في قطاع الصحة بمنطقة شمال غربي سورية، بما فيها الصحة النفسية، حيث وسّعت نطاق نشاطها واستجابتها بعد وقوع كارثة الزلزال.
وتقول المنظمة إنه “بعد عام، لم تعد العواقب المادية للزلزال جلية كالسابق، لكن آثاره النفسية الصارخة لا تخفى على أحد”.
وأطلقت المنظمة مبادرة “المساحات الآمنة” بعد أشهر قليلة من وقوع الزلزال، تهدف إلى توفير مكان آمن للنساء والأطفال لمساعدتهم على التعافي من الخوف.
وتمكنت من الوصول إلى 25 ألف امرأة وطفل، وأحالت قرابة 2000 حالة منهم إلى منظمات أخرى لمتابعة حالاتهم الصحية سواء النفسية أو الجسدية.
من بيت إسمنتي إلى خيمة
مؤيد الأحمد، نزح من بلدة التح بريف إدلب، خلال الحملة العسكرية الأخيرة، ووصل به التهجير إلى قرية صلوة بريف إدلب، وأقام فيها حتى وقوع الزلزال.
في ليلة الزلزال، خرج مؤيد باتجاه مخيم للنازحين قرب قرية باتنته بريف إدلب الشمالي، هرباً من منزله الذي تصدّع، وعاد إليه بعد أيام ليغادره مجدداً وبشكل نهائي بسبب وقوع هزة ارتدادية “شديدة”.
يقول مؤيد لـ”السورية.نت”: “بعد وقوع الهزة صار يخيل إلينا أن المنزل عبارة عن ضبع بدو ياكلنا”، في إشارة إلى حالة الخوف التي تملّكت عائلة مؤيد.
وأحدثت الهزات الارتدادية حالة قلق لدى مؤيد بسبب حالة زوجته الصحية، التي كانت على مشارف الولادة، ويقول بهذا الصدد: “كنت متخوفاً من أي أعراض قد تضر بها أو بالجنين نتيجة الخوف والقلق الذي تلقته بعد الزلزال”.
لكن “سألتها عن المكان الذي ترتاح فيه، فكانت الإجابة: العودة إلى المخيم”.
يوضح مؤيد أن الإقامة في المخيم ساعدت عائلته على تجاوز حالة القلق والخوف من الزلزال، على اعتبار أن الخيمة بلا سقف أو جدران إسمنتية، كما أنه لاحظ تحسناً في الحالة النفسية لزوجته وأطفاله، وفق تعبيره.
يرفض مؤيد العودة إلى الإقامة في مسكن إسمنتي، ويقول: “أنا مرتاح بالخيمة جداً وإذا بتعطيني قصر ببلاش ما بسكن فيه”.
آلاف الاستشارات النفسية
تتحدث رميزة الشيخ، مديرة أنشطة الصحة النفسية في منظمة “أطباء بلا حدود” (إدلب)، عن أكثر من 8 آلاف استشارة نفسية قدّمها فريق الصحة النفسية التابع للمنظمة، خلال الفترة الممتدة بين شهري شباط/فبراير وكانون الأول/ديسمبر من عام 2023.
وتضيف في حديثها لـ “السورية نت” أن “معظم الأعراض التي تم تسجيلها كان لها علاقة بالقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، الذي عادة ما يزداد بعد التعرض لأحداث ضاغطة ومفاجئة ومهددة للحياة كما هو الحال في الزلازل”.
وتتابع: “كثيراً ما شارك معنا الناس خوفهم وقلقهم من حدوث زلزال آخر وكانت الأعراض مثل سرعة التحفز والاستثارة الواضحة، حيث كان الكثير منهم يعتقد بسهولة أن أي حركة قد تكون فعلاً زلزالاً آخر”.
وبحسب الشيخ فإن “فقدان الأعزاء والممتلكات، والعيش مرة أخرى في خيمة وتجدد تجربة النزوح، كان له ثقله الذي ضاعف من الآثار النفسية وأدى بالكثيرين إلى الشعور بمزيد من الإحباط واليأس واللا جدوى”.
وسجلت منطقة شمال غربي سورية، عقب الزلزال، زيادة واضحة في شدة الأعراض النفسية، بحسب فرق “أطباء بلا حدود”، حيث عانى 60% من الناجين أعراضاً متوسطة إلى شديدة.، وذلك بحسب مديرة الأنشطة.
وتتحدث أيضاً عن “زيادة في عدد حالات الانتحار، وطلبات المساعدة للتعامل مع محاولات الانتحار النشطة والتي عمل فريقنا على إدارتها بشكل جيد جداً”.
كيف كانت الاستجابة؟
توضح رميزة الشيخ لـ”السورية.نت” أن “الاستجابة تضمنت أنشطة الإسعاف النفسي الأولي (PFA)، إضافة إلى جلسات الدعم النفسي الفردي التي تتضمن التدريب على تقنيات الاسترخاء وإدارة الضغوط والبحث في إدارة وحل المشكلات مع المستفيدين”.
كما “تم تقديم الجلسات الجماعية التي ركزت على التوعية وتقديم التثقيف النفسي للمستفيدين حول الزلازل وردود الفعل الطبيعية للأحداث الصادمة، من حيث مدتها وشدتها ومتى يجب استشارة طبيب أو أخصائي نفسي”.
وتقول الشيخ إن “الأطفال كان لهم نصيب كبير ضمن أنشطتنا خاصة الجماعية، حيث قدمنا في مراكز الاستقبال العديد من الأنشطة الترفيهية وأنشطة اللعب الجماعي لتخفيف آثار التوتر والقلق الناتج عن الحدث الصعب، كما تم تدريب الأهالي على التعامل مع الأطفال خلال الأحداث الصعبة والاستجابات المختلفة التي تعزز رحلة التعافي”.
وبدأت عمليات الاستجابة بـ”عملية مسح احتياج لخدمة الصحة النفسية للمناطق والمخيمات التي يتواجد فيها الكثير من العوائل والأسر الذين تضرروا من الزلزال”.
وتقول هبة بيراوي، مشرفة الصحة النفسية في أطباء بلا حدود ـ إدلب: “قمنا باختيار المخيمات التي يتواجد فيها فئة كبيرة من الناس الذين تضرروا من الزلزال”.
وتلت خطوة المسح، وفقاً لبيراوي، خارطة للخدمات لتلبية كافة الاحتياجات وتسهيل عملية التحويل لكافة الخدمات الأخرى والمتخصصة، مع وضع خطة حركة يومية بحيث تغطي كافة المخيمات بشكل عام.
في أحد مشاريعنا الذي يستهدف منطقة الدانا ودير حسان وأطمة، شمال غرب سورية، وصل عدد المستفيدين من الأنشطة الجماعية إلى 16928، فيما وصل عدد المستفيدين من أنشطة التدخل الفردي إلى 1635، منهم 100 حالة متوسطة إلى شديدة (تحت الأدوية النفسية)
رميزة الشيخ ـ مديرة أنشطة الصحة النفسية في أطباء بلا حدود ـ إدلب لـ”السورية.نت”
طالت جميع الأعمار
وكشف رميزة الشيخ، مديرة أنشطة الصحة النفسية في منظمة “أطباء بلا حدود” (إدلب)، أن “الآثار النفسية للزلزال قد طالت جميع الفئات العمرية بين الأطفال والبالغين”.
لكنها تتحدث عن فروقات في الأعراض، قد طالت بعض الفئات العمرية.
وأوضحت أنه “بين فئة الأطفال انتشرت حالات الخوف و القلق و التبول اللا إرادي و أحياناً يعايشون الحدث مرة أخرى في أحلامهم ككوابيس مخيفة”.
أما عند البالغين “يمكنك ببساطة ملاحظة القلق و اضطرابات النوم بسهولة، والاستثارة والشعور بالخوف من حدوث الزلزال عند أي حركة أو صوت، ويتجدد ذلك مع كل هزة ارتدادية تحدث، إضافة لصعوبات التكيف الواضحة وصعوبة تقبل الواقع الجديد الذي يؤدي إلى المزاج المنخفض ومشاعر اليأس واللا جدوى”.
طلب الخدمة “ذاتي”
على الرغم من “الحرج” الشخصي في طلب الاستشارة النفسية، السائد في بعض المجتمعات، توضح هبة بيراوي أن “طلب خدمة الصحة النفسية والسؤال عنها كان بشكل ذاتي من قبل المستفيدين”.
وتضيف حول إقبال الحالات: “التقبل كان واضحاً وبشكل جيد حيث أصبحت فرقنا مقصداً للكثير من الناس وخصوصاً بعد تعرفهم على خدماتنا”.
وكذلك “كان هناك دعم ومساندة من المجتمع المحلي، خاصة مدراء المخيمات والمجالس المحلية، الذين كانوا متعاونين جداً من حيث تزويدنا ببعض قوائم الأسر التي بحاجة لخدمتنا، وتسهيل الوصل لهم، وأحياناً تأمين مكان مخصص لمقابلة الحالات الفردية في حال عدم توفر مكان مناسب، وأيضًا تأمين مكان لتقديم الأنشطة الجماعية والوصول لأكبر عدد ممكن من خلال التعريف بخدماتنا عن طريق مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي (واتس أب)”.
وتتحدث بيراوي عن أبرز التحديات التي تواجه فرق الصحة النفسية، أبرزها أن “أعضاء فريق الصحة النفسية هم جزء من المجتمع الذي تعرض للحدث المروع وتأثروا به، ورغم كل هذا قاموا بالمساندة والمشاركة في تقديم خدمات الصحة النفسية”.
إلى جانب “وجود صعوبة في التعامل مع الحالات الشديدة والتي هي بحاجة لمعالج أو أخصائي نفسي، حيث تم التعامل معها عن طريق الإحالة لخدمة متخصصة”.
كما واجهت الفرق تحدياً، وفقاً لبيراوي”، يتمثل بـ”عدم وجود معلومات دقيقة عن انتهاء الزلزال وعدم حدوثه مرة أخرى، وخصوصاً بعد حدوث هزات ارتدادية، بعضها كان قوياً وتجاوز الـ 5 درجات”.
وتردف: “يقوم الفريق من خلال تقديم الأنشطة الفردية والجماعية بتقديم التعليمات والإرشادات للتعامل السليم في حال حدوث أي هزات ارتدادية”.