تتعرض مكاسب روسية جاهدت موسكو لتحقيقها على مدى أكثر من أربعة أشهر، للإجهاض. إذ انتعشت بشكل مفاجئ، عمليات تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش”، في البادية السورية، وتمرّد فصيل مسلح لطالما راهنت عليه روسيا، الأمر الذي يهدد بإعادة ترتيب نتائج مكاسرة مع إيران امتدت على مدار تسعة أشهر، في بقعة ذات قيمة نوعية من الناحيتين الاقتصادية والجيوسياسية.
ورغم أكثر من 100 غارة جوية روسية في 3 أيام، تستمر هجمات “داعش” الخاطفة في تكبيد الفصائل الموالية للنظام، وللروس، خسائر فادحة. آخرها، تلك التي مُني بها “لواء القدس” الفلسطيني، المدعوم روسياً. تلك الخسائر دفعت بفصيل آخر، مدعوم روسياً، إلى التمرد ورفض الانصياع لأوامر الروس بالانخراط في معارك البادية المكلفة بشرياً. القرار الذي اتخذه القيادي المعارض سابقاً، أحمد العودة، الذي يقود حالياً “اللواء الثامن” في درعا، كلّفه وقف رواتب مقاتليه المقدّرة بـ 200 دولار شهرياً.
وبذلك، تتجلى مجدداً نقطة ضعف التدخل العسكري الروسي في سوريا، وهي افتقادها لظهير برّي قادر على الوفاء بمتطلباتها القتالية، واحتياجها المتكرر للتعاون مع الفصائل العسكرية المحسوبة على إيران. الأمر الذي يؤكد صعوبة إنهاء معادلات الشراكة بين الطرفين في الساحة السورية. ففي كل مرة، تفقد فيها إيران الغطاء الجوي الروسي، تتعرض للانتكاس. وفي كل مرة، تفقد فيها روسيا الظهير البري الإيراني، تتعرض للانتكاس، بدورها.
وكي نفهم ما يحدث في البادية السورية، بشكل أفضل، علينا أن نعود إلى الوراء قليلاً. فمنذ أواخر آب/أغسطس 2020، أطلقت روسيا ما أسمته “عملية الصحراء البيضاء”، بهدف مُعلن مفاده، ملاحقة خلايا تنظيم “داعش” الناشطة في البادية السورية. لكن تلك العملية كانت بطيئة وبتصعيد محدود، خلال الأشهر الأربعة الأخيرة من العام 2020 وصولاً حتى نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2021، وهي الفترة التي شهدت ازدياداً كبيراً في نشاط خلايا التنظيم وهجماته التي طالت قوافل عسكرية وشاحنات نفط، ظهرت خلالها الميليشيات الإيرانية بمظهر العاجز عن الحد من تفاقم ذلك النشاط. الأمر الذي مهّد لتحولات في موازين القوى بين الروس والإيرانيين، بالبادية السورية.
وقدّمت طهران تنازلات جليّة لصالح روسيا، التي صعّدت من عملياتها العسكرية، البريّة والجوية، ضد خلايا التنظيم، منذ نهاية كانون الثاني/يناير 2021، وعلى امتداد الأشهر الأربعة التالية، حيث شنت مئات الغارات الجوية، التي أفضت إلى انكماش عدد هجمات التنظيم، وتراجع نوعيتها، بعد أن كادت تهدد بقطع خط نقل النفط بين شرقي الفرات، ومناطق سيطرة النظام، مطلع العام الجاري.
أبرز تلك التنازلات، قبول طهران بوصول قوات روسية إلى معبر البوكمال على الحدود السورية – العراقية في كانون الأول/ديسمبر 2020، بعد أن كانت تلك منطقة نفوذ خالصة للإيرانيين. وثاني تلك التنازلات، تتمثل بتخلي الميليشيات الإيرانية عن حقل توينان الغازي بريف الرقة، لصالح روسيا، في منتصف آذار/مارس الفائت.
وقد يكون أبرز مكسب لروسيا، من تلكؤها السابق في استهداف “داعش”، هي تلك الصفقة التي عقدها رجل الأعمال حسام قاطرجي، مع ضباط روس في مطار دير الزور العسكري، في شباط/فبراير 2021، والتي مثّلت انتقالاً لـ آل قاطرجي، من الضفة الإيرانية إلى الضفة الروسية. جاء ذلك بعد أن كانت قوافل شاحنات النفط المملوكة لـ “آل قاطرجي”، هدفاً لهجمات “داعش” بشكل مكثف خلال العام 2020، وحتى مطلع العام 2021.
وتمثل هذه العائلة، أكبر وسيط لنقل النفط والقمح بين شرق الفرات الخاضع لسيطرة “قوات سورية الديمقراطية – قسد” المدعومة أمريكياً، وبين مناطق سيطرة النظام. ويشكّل النفط الخام الذي تنقله شاحنات “مجموعة قاطرجي”، شريان حياة حيويّ لمناطق سيطرة النظام. الأمر الذي يوضح أهمية التحالف الجديد الذي عقدته روسيا مع هذه العائلة.
ما سبق، يؤشر إلى أن عمليات روسيا العسكرية ضد “داعش” في البادية السورية، كانت غطاءً للصراع البارد الروسي – الإيراني على تلك المنطقة الغنية بالقيمة الاقتصادية والجيوسياسية، على حدٍ سواء. فالبادية التي تمتد على مساحة تُقدّر بنصف مساحة سوريا، تحتوي ثروات باطنية، تشمل معظم ثروة سوريا المُكتشفة من الغاز والفوسفات، والتي تتركز في بادية حمص الشرقية، حيث حصدت روسيا عقود استثمار نوعية مع حكومة النظام السوري، على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، ناهيك عن احتياطيات محتملة من الفوسفات، وفق كشوفات التنقيب الروسية، التي ذهبت إلى وجود احتياطي من الفوسفات بضعف الكميات المعلن عنها، تتركز في بادية دير الزور الجنوبية، حيث دارت مكاسرة القوى الأخيرة بين روسيا وإيران.
رغم ما سبق، تطرح ضآلة ثروات سوريا من الطاقة –النفط والغاز- مقارنة بثروات دولة مثل روسيا، تساؤلات حول الجدوى الاقتصادية للتكاليف التي تبذلها موسكو في البادية السورية، وفي عموم سوريا. وهنا، يتجلى البعد الجيوسياسي، المتعلق بإصرار الكرملين على تعزيز أوراق قوته وسيطرته في سوريا، بصورة تضمن نفوذه في مستقبل البلاد. وما يعنيه ذلك من تعزيز لأوراق القوة في عالم متعدد الأقطاب، تبدو فيه الصين وإيران أقرب إلى منافسَين للروس، أكثر منهما، حليفَين.
لكن المكاسب الروسية التي تحققت في البادية السورية خلال الأشهر الفائتة من العام الحالي، تبدو وكأنها تذهب هباءً، وفق التطورات الميدانية في الأيام القليلة الماضية. وفيما يتمرد “اللواء الثامن” في درعا، ويتعرض “لواء القدس” للاستنزاف، تتجلى خيارات مرّة أمام الروس، أكثرها مرارةً، ونجاعةً في آن، الاستعانة مجدداً بالظهير البرّي الإيراني. فالغطاء الجوي الروسي، برفقة مقاتلي إيران على الأرض، كانا دوماً طرفي معادلة ناجعة في تحقيق إنجازات ميدانية نوعية. وهذا الخيار يبدو الأنسب أمام الروس في مواجهة حرب العصابات التي ينتهجها “داعش”، والتي تهدد استثمارات نفطية وغازية وفوسفاتية روسية على أطراف منطقة نشاط التنظيم. لكن هذا الحل الناجع، سيضطر روسيا مجدداً لتجرع كأس مرّة من الشراكة التي لا انفكاك منها، مع إيران في سوريا. تلك الشراكة التي تعيق تسوية نهائية مع الغرب، وتمنع تحويل الساحة السورية إلى ساحة استثمار وإعمار، وتجرّ روسيا إلى الخيار الإيراني في سوريا، والذي يقوم على إبقائها ساحةً لأغراض أمنية وسياسية، لا أكثر.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت