في ظل الظروف الاستثنائية التي تعيشها مناطق شمال غرب سورية منذ 12 عاماً، تقف تحديات قطاع التعليم في هذه المناطق كحاجز أمام تحقيق الأهداف التعليمية المستدامة لمئات آلاف الطلاب ممن واجهوا مطبات عدة، بدءاً من اندلاع الحرب ووصولاً إلى التهجير والهجمات العسكرية المتكررة.
لكن خلال السنوات الخمس الماضية، زادت التحديات أمام هذا القطاع مع تراجع الدعم المقدم وتداعيات الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وما ترتب عليها من ارتفاع نسبة تسرب الأطفال من المدارس ونقص الكوادر التعليمية وغيرها من التحديات.
أزمات من ثقب التسرب
تسجل المنظمات المحلية العديد من الانتهاكات التي طالت قطاع التعليم في شمال غرب سورية، حيث تشير الإحصائيات إلى استهداف مئات المدارس والمراكز التعليمية.
هذه الهجمات لم تقتصر على خسائر في الأرواح بين الطلاب والمعلمين، بل تسببت أيضاً في أضرار بالغة في البنية التحتية التعليمية، وأدت إلى تعطيل الوصول للتعليم لمئات الآلاف من الطلاب في المنطقة.
وفي أحدث الإحصائيات الصادرة اليوم الأربعاء، وثقت منظمة “الدفاع المدني السوري” استهداف 4 مدارس منذ بداية العام الحالي 2024، و30 مدرسة خلال عام 2023.
كما وثقت استهداف 144 مدرسة ومنشأة تعليمية خلال الأعوام الخمسة الماضية.
وقالت في بيان لها إنه منذ مطلع عام 2019 وحتى سبتمبر/ أيلول 2023، استهدفت قوات الأسد وروسيا أكثر من 144 مدرسة ومركزاً تعليمياً شمال غربي سورية.
وكان تسرب الأطفال من المدارس أحد أبرز التداعيات التي نجمت عن ذلك التصعيد، إذ تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 2.1 مليون طفل في سورية متسربون من التعليم، بينهم أكثر من 318 ألف طفل في شمال غربي سورية و78 ألفاً داخل المخيمات.
يرى مدير التربية والتعليم في إدلب، أحمد الحسن، أن غياب استقرار العملية التعليمية في المنطقة كان له دور كبير في تسرب الأطفال.
ويضيف في حديثه لـ “السورية نت” أن انتشار الفقر والانقطاع عن التعليم، بسبب القصف والتهجير على مدى السنوات الماضية، أدى إلى انتقال الأطفال من المسار الدراسي إلى سوق العمل بحثاً عن الرزق.
وفي تقرير لموقع “بورغن بروجكت“، الذي يقود حملات مناصرة في الخارجية الأمريكية، فإن العديد من هؤلاء الأطفال يضطرون إلى العمل لأن والديهم إما غير قادرين على العمل أو غير قادرين على تحمل نفقات المعيشة بمفردهم.
ويضيف أن أكثر من 75% من الأسر في سورية لديها أطفال يعملون، نصفهم تقريباً يوفرون مصدر دخل “مشترك” أو “وحيد”.
وبحسب الموقع، فإن عمالة الأطفال في سورية تتجه بشكل متزايد نحو العمل في المصانع، أو العمل كعمال نظافة أو جامعي قمامة أو عمال بناء أو ميكانيكيين أو نجارين.
من جانبها، تحدثت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” عن انتشار عمالة الأطفال في سورية “بأسوأ أشكالها”.
وأرجعت الأسباب، في تقرير لها حول الانتهاكات بحق أطفال سورية، في نوفمبر الماضي، إلى فقدان الطفل لمعيله بسبب عمليات القتل، إلى جانب عمليات النزوح لأكثر من مرة.
إضافة إلى الوضع الاقتصادي الصعب للعائلات، والتدمير الممنهج للمدارس والمؤسسات التعليمية، وبُعد المراكز التعليمية عن المخيمات.
وجاء في التقرير أن “عمل الأطفال بات جزءاً من العديد من الأعمال التي تشكل خطراً حقيقياً على حياتهم، كالعمل ضمن محطات تكرير النفط البدائية أو ضمن مكبات القمامة والتعرض للروائح والغازات الخطيرة”.
معلمون بوجه التحديات
على الضفة الأخرى، تتجلى معاناة الكوادر التعليمية في مناطق شمال غربي سورية، خاصة بعد تراجع الدعم المقدم لهم وانقطاع الرواتب، ما دفع بعضهم إلى العمل بشكل تطوعي منذ سنوات، وسط آمال برواتب ثابتة.
إذ تعمل أعداد كبيرة من المدارس في إدلب بصورة تطوعية وخاصةً من “الحلقة الثانية”، بعد انحسار الدعم عن القطاع التعليمي منتصف عام 2019.
وسبق أن نظم معلمون متطوعون وقفات احتجاجية في إدلب وأعلنوا إضرابهم في مرات عدة، خلال السنوات الماضية، احتجاجاً على غياب الدعم والرواتب الشهرية الثابتة.
وفي حديثه لـ “السورية نت” عن أبرز التحديات التي يواجهها المعلمون في إدلب، يقول مدير مدرسة “etc” إيهاب زكور، إن انخفاض رواتب المعلمين وانقطاعها بشكل مفاجئ في القطاع العام يترأسان القائمة.
موضحاً أن المدرسين في المنطقة لا يتلقون رواتب أثناء العطل المدرسية، ما يمثل تحدياً لهم خلال العطلة الصيفية في تأمين دخلهم الشهري.
ويضيف أن “المعلمين يلجؤون للعمل بعد الدوام الرسمي من أجل تحسين الدخل، أو الاعتماد على الدورات الخاصة”.
إلا أن مدير التربية والتعليم في إدلب، أحمد الحسن، نفى لـ “السورية نت” وجود انقطاع في رواتب المعلمين خلال الفترة الأخيرة.
وقال: “لا يوجد انقطاع لرواتب المعلمين والكوادر التعليمية حالياً”.
متحدثاً عن وجود برامج “طارئة” في مديرية تربية إدلب، تكفل الكوادر التعليمية وتضمن حصولها على الرواتب.
وبحسب زكور، تتراوح أجور المعلمين في القطاع العام بين 90 إلى 150 دولار أمريكي، حسب المرحلة الدراسية وحسب المؤسسة والمنطقة الجغرافية.
أما في القطاع الخاص، تتراوح الأجور بين 40 و300 دولار للحلقة الأولى ورياض الأطفال، وبين 100 و700 دولار للحلقة الثانية، وبين 150 و1000 دولار للمرحلة الثانوية، وذلك حسب المؤسسة وخبرة المعلم.
ويتحدث زكور أيضاً عن مشكلة عدم توفر نظام معتمد للتقاعد الوظيفي في مناطق شمال غربي سورية، ما يؤدي إلى زيادة أعمار المدرسين بحثاً عن لقمة العيش، وفق تعبيره.
ولفت لوجود “فائض ضخم جداً بأعداد المعلمين في سوق العمل، ما ينعكس سلباً على مستوى الرواتب، ويعمّق الفجوة مع الأساتذة النوعيين الذين يتقاضون أجراً كبيراً”.
ويعتبر نقص التخصصات العلمية بين الكوادر التعليمية شمال غربي سورية، أحد أبرز الحواجز التي تعيق سير قطاع التعليم، وفق الأستاذ إيهاب زكور.
مشيراً إلى “ندرة المدرسين النوعيين أصحاب الخبرة والكفاءة في معظم الاختصاصات، وعدم تأهيل الخريجين الجدد علمياً وتربوياً”.
مشاريع رديفة للدعم المتراجع
لا يزال قطاع التعليم شمال غربي سورية يعمل في مرحلة الطوارئ منذ أكثر من 10 سنوات، ما يجعله مرهوناً بالدعم الدولي المقدّم والاستجابة الإنسانية لتلك المناطق.
وتراجع الدعم الدولي تدريجياً، خلال السنوات الخمس الماضية، فيما زادت احتياجات قطاع التعليم، خاصة بعد زلزال فبراير/ شباط، واستمرار الاستهداف العسكري للمدارس.
وفي دراسة لـ “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، جاء فيها أن “التمويل المقدم لدعم المراحل العليا من التعليم يتناقص، وبقي الدعم المقدم للمراحل التعليمية الأولى”.
وأشارت إلى أن حجم احتياج قطاع التعليم للدعم والتمويل من الجهات الخارجية قدر بـ 351.43 مليون دولار، وتم وضع خطة الاستجابة على أساس التزام الجهات الدولية بتغطية 48.27 مليون دولار، أي ما يعادل 13.7% من حجم الاحتياج الفعلي.
لكن ما تم تغطيته بشكل فعلي هو مبلغ 28.24 مليون دولار، أي 8% من حجم الاحتياج الحقيقي، وفق الدراسة.
يرى أحمد مهنا، قائد فريق التعليم في منظمة “إحسان للإغاثة والتنمية” (إحدى مؤسسات المنتدى السوري)، أن تراجع الدعم عن قطاع التعليم له نتائج “كارثية” على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية.
ويقول في حديثه لـ “السورية نت” إن ذلك قد يكون سبباً في انتشار تسرب الأطفال من المدارس وانتشار العمالة بينهم وكثرة مظاهر التسول وانخراط الأطفال بالتجنيد العسكري، فضلاً عن انتشار الزواج المبكر بين الفتيات.
أما على صعيد الكوادر التعليمية، يرى مهنا أن تراجع الدعم يسهم بـ “تفشي الفقر بين عائلات المدرسين، وانتشار البطالة بينهم، ونقص مهاراتهم نتيجة نقص التدريبات المقدمة لهم، فضلاً عن لجوء عدد من المعلمين لمغادرة هذا الحقل والعمل في قطاعات أخرى”.
وعلى الصعيد المجتمعي، قد يؤدي غض النظر عن قطاع التعليم شمال غربي سورية إلى “تفشي الجهل والأمراض والاستغلال الجنسي”، بحسب مهنا.
مردفاً أنه قد يسفر أيضاً عن “عدم رفد المجتمع بالكفاءات العلمية لقيادة المجالس والمؤسسات بطريقة مؤسساتية”.
وهنا يبرز الدور الأساسي للمشاريع المحلية بدعم قطاع التعليم، لتكون رديفاً أساسياً للتمويل الدولي، وفق مهنا، دون أن تغني عنه بشكل كامل.
وتنفذ منظمات محلية مشاريع عدة لتأهيل وبناء المدارس وتأمين المستلزمات المدرسية للطلاب، وتوفير رواتب المعلمين والمصاريف التشغيلية وصيانة الأبنية القديمة، بما يضمن تحسين البيئة التعليمية واستمرارها.
وبحسب قائد فريق التعليم في منظمة “إحسان”، فإن المشاريع الحالية “تساهم في تعويض الفاقد التعليمي للطلاب، خصوصاً الذين عاشوا فترات الحرب والنزوح وانقطعوا عن التعليم لمدة طويلة”.
واعتبر أن لهذه المشاريع دوراً في بناء مدارس تستوعب النازحين، وتوفير فرص عمل والحد من البطالة وبناء قدرات المعلمين- لا سيما الخريجين الجدد- لرفد المجتمع بكوادر واعية، وفق تعبيره.
فضلاً عن “الحد من العنف المجتمعي في هذه المناطق، وتخفيف العبء على الأهالي من خلال دعم الكتب والحقائب التعليمية للأطفال وجعل التعليم مجاني إلى حد ما”.
اعتراف “محدود” بالشهادات
يواجه الطلاب شمال غرب سورية وذويهم إشكالية حول مدى الاعتراف بالشهادة الثانوية والجامعية، الصادرة عن المؤسسات التعليمية في “حكومة الإنقاذ”، ما يدفع البعض منهم لإرسال أبنائهم وبناتهم، لتقديم الامتحانات في مناطق سيطرة النظام.
وكذلك يواجه حاملو الشهادة الثانوية مصاعب في الحصول على قبول جامعي في بعض الجامعات التركية، فضلاً عن الأوروبية، لكون الشهادة الممنوحة للطلاب لا تصدر عن حكومةٍ معترف بها دولياً.
وحتى الآن، تعتبر الأمم المتحدة، ودولٌ كثيرة، أن حكومة نظام الأسد هي “الحكومة الشرعية” في سورية، وبالتالي لا تقبل الوثائق الصادرة عن الحكومات في مناطق السيطرة الأخرى.
وتؤكد مديرية التربية والتعليم في إدلب لـ “السورية نت” أن الاعتراف بالشهادات الثانوية “داخلي فقط”.
لكن تبقى اتفاقيات التعاون، التي تعقدها المؤسسات التعليمية في الشمال السوري مع الجامعات والمؤسسات التعليمية التركية، بصيص أمل للطلاب في تلك المناطق.
خاصة أن بعض الشهادات الصادرة عن وزارة التربية في “الحكومة المؤقتة” تلقى اعترافاً في أوروبا وفي بعض الجامعات التركية، لكن بشرط تعديل الشهادة من الجانب التركي.
وتشير دراسة “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية” حول فجوات التعليم شمال غرب سورية، إلى تناقص الرغبة بإكمال الدراسة الثانوية بسبب ضبابية المستقبل وضيق الفرص الجامعية، وبالتالي تناقص فرص العمل المرتبطة بالتعليم الجامعي.
وأضافت: “يلعب موضوع الاعتراف بالشهادات الأساس الفصل في قناعة الطالب بعدم جدوى إكمال التعليم على الرغم من افتتاح عدد من الكليات” في المنطقة.
واعتبرت الدراسة أن مسألة الاعتراف بالشهادات يجعل طلبة الثانوية يخرجون لسوق العمل، بدلاً من صرف سنين في التعليم بدون شهادة قوية علمياً.
وتبقى مسألة التعليم شمال غربي سورية أمام تحديات ومصاعب جمّة، شكلت هاجساً يراود القائمين على العملية التعليمية من جهة، والطلاب من جهة أخرى، ليصبح من بين أكثر القطاعات تأثراً بالحرب كونه مرتبطٌ بأحلام ومستقبل الآلاف من الشباب والشابات في المنطقة.