يعيش حوض البحر الأبيض المتوسط على وقع توترٍ متصاعد بين تركيا وفرنسا. وتتداخل عواملُ اقتصادية وجيوسياسية في تغذية هذا التوتر، أبرزها ترسيمُ الحدود البحرية، والصراع على موارد الطاقة، وتوزيع النفوذ في شرق المتوسط، والصراع في ليبيـا، والنزاع الذي تفجر أخيرا بين أذربيجان وأرمينيـا. وهناك عوامل أخرى لا تقل أهميةً، من قبيل الدور الذي لعبته فرنسا، حسب تركيا، في رفض الاتحاد الأوروبي طلب الأخيرة الانضمام إليه، هذا إضافة إلى ما تعتبره تركيا كيلا بمكيالين من فرنسا، إذ لم ينس الأتراك كيف ساهمت باريس في إعادة ما تعرف بقضية ”مذابح الأرمن” إلى الواجهة، بعد مصادقة البرلمان الفرنسي في 2012 على قانونٍ يجرّم إنكار هذه المذابح التي كانت تركيا العثمانية مسرحا لها، إبّان الحرب العالمية الأولى. ولا تكتفي تركيا بالتشكيك في الرواية الأرمينية، بل تعتبر أن فرنسا آخر دولةٍ يمكن أن تعطي دروسا للغير في هذا الصدد، بسبب سجلها الاستعماري الأسود، خصوصا في الجزائر.
في السياق ذاته، شكّل القرار التركي إرسال قوات إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني التي تعترف بها الأمم المتحدة تحولا نوعيا في هذا التوتر، فقد اعتبرت فرنسا ذلك تهديدا مباشرا لمصالحها الحيوية في شرق المتوسط، وهي التي تتطلع إلى أن تكون في قلب معادلة القوة والنفوذ التي بات الصراعُ على موارد الطاقة عنوانها العريض. وتكتسي المواجهة بين الطرفين في ليبيا دلالةً إقليمية خاصة، في ضوء تقاطع الأجندة الفرنسية مع أجندة محور الثورة المضادة الذي تقوده الإمارات والسعودية ومصر. ويمثل دعمُ اللواء المتقاعد خليفة حفتر بالنسبة لهذا المحور، وفرنسا جزءا من استراتيجية التصدّي للمد الديمقراطي في المنطقة.
يعي الأتراك جيدا حرص فرنسا على حماية مصالحها الاستراتيجية ضمن هذه المعادلة، ويدركون أن خروجهم منها لا يعني فقط انتكاسةً لاقتصادهم الناهض، بقدر ما يعني، كذلك، تهديدا وجوديا لهم، خصوصا في قبرص التي تمثل عمقا حيويـا لهم في ظل سيطرة القبارصة الأتراك على جزئها الشمالي. ويدركون أيضا أن ما يقع في شرق المتوسط يكاد لا ينفصل عما يشهده الملف السوري، بكل تعقيداته الإقليمية والدولية. وقد كانت فرنسا من الدول التي انتقدت بشدة الهجوم التركي على “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال سورية إبّان ما عرف بعملية ” نبع السلام” في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
وتحاول فرنسا جر الاتحاد الأوروبي إلى تبنّي موقف أكثر راديكالية في مواجهة التحرّكات التركية في شرق المتوسط. وقد نجحت في ذلك نسبيا، إذ من غير المستبعد أن يفرض الاتحاد حزمة عقوبات على تركيا، إذا لم تتوقف عن التنقيب عن الغاز: غير أن ذلك لا يبدو أنه يحظى بإجماع كل دول الاتحاد، حيث يتحفظ بعضها على التصعيد الفرنسي مع تركيا، باعتبارها دولة عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويفضل إيجاد مداخل أخرى للتعامل مع الصعود التركي في المنطقة. وتعمل تركيا على استثمار هذه التناقضات داخل الاتحاد و”الناتو”، واستخلاص عوائدها من أجل تعزيز علاقتها ببعض هذه الدول، مثل إيطاليا التي تعتبر تركيـا شريكا جادّا في إدارة ملف اللاجئين.
على صعيدٍ ذي صلة، يثير التغلغل الاقتصادي التركي في مناطق النفوذ الفرنسي انزعاج باريس، سيما وأن الأتراك يوظفون في ذلك حزمة موارد دينية وثقافية وتاريخية. ويمثل المغرب العربي وجنوب الصحراء والساحل وغرب أفريقيا مناطق نفوذ تقليدية بالنسبة لفرنسا التي تعتبر أي تغلغل فيها، مهما كانت طبيعته، تهديدا لشبكة مصالحها المتشعبة. وقد كان لافتا كيف قوبل اتفاق التعاون العسكري الذي أبرمته تركيا مع النيجر، في يوليو/ تموز الماضي، باستياء واضح في فرنسا. ويأخذ الأمر أبعادا تاريخية دالة، حين تستثمر تركيا المشاعر المعادية للإرث الاستعماري الفرنسي في أفريقيا، لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي.
يبدو التوتر التركي الفرنسي الحالي كأنه طور آخر في مواجهة مفتوحة بين البلدين؛ مواجهة يصعب التكهن بمآلاتها في ظل تعدّد اللاعبين المتدخلين في الملفات الملتهبة للمنطقة، وتناقض مصالحهم وأجنداتهم الإقليمية والدولية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت