هو تمرين ذهني. هكذا هو حال الخلافات السورية التي برزت في الأيام الأخيرة حول فكرة إنشاء مجلس عسكري انتقالي مختلط من ضباط موالين ومعارضين. هو أيضاً تمرين على الخلاف على جِلد بشار قبل صيده، وفق المثل المعروف عن الخلاف حول جلد الدب قبل صيده. فالمجلس المقترح العتيد يُفترض أن يدشن ما بعد بشار الأسد، بل ما بعد نصف قرن من حكم عائلته، وجزء من الخلاف حوله هو خلاف على تركة الأسدية وكأن “صيدها” صار متاحاً.
إلا أن التمرين الذهني تشعب كالمعتاد، في حين كان ممكناً أن يقدّم قليلاً من الفائدة لو انصبّ على ما هو أساسي بدل التيه في تشعبات ليست في أصل الفكرة، ولا تستغلها لتقديم معرفة سياسية راهنة. أقل ما يقتضيه الفهم الواقعي الراهن رؤية المستوى السياسي للمعارضة يتسول مفاوضات “جادة” في اللجنة الدستورية، ورؤية الفصائل العسكرية “بمختلف تسمياتها وتوجهاتها” تتسول وقفاً دائماً لإطلاق النار. في الحالتين، الدب ليس في موقع الطريدة، لا بشائر لتوافق دولي قريب على وضعه في هذه المكانة.
بناء على الواقع لا الأمنيات، من المرجح أن يحظى خيار تشكيل مجلس عسكري بقبول غالبية السوريين، متضمنة نسبة غالبة من الموالاة، لا حباً منهم بالعسكر وإنما لما ينطوي عليه لجهة استبعاد آل الأسد من السلطة. الذين سيوافقون على المجلس العسكري غير مدفوعين بالسذاجة أو قلة الوعي، دافعهم الأساسي اليأس وانسداد الأفق أمام تغيير سلمي ديموقراطي. بمعنى أن أي حكم يحل مكان عائلة الأسد لا يُتوقع منه الأسوأ، ولا يُتوقع منه القدرة على صناعة أسدية جديدة. هناك قناعة سورية ودولية عامة بأن بشار الأسد هو آخر الأسديين، إذا سقط أو تنحى، وحتى إذا حل مكانه ديكتاتور فقد ولى الزمن الذي سمح للأسد الأب بصناعة أبده.
موسكو غير بعيدة عن فكرة بيع جلد الدب قبل صيده، فهي تروّج لامتلاكها إياه على الرغم من منافسة طهران. التركيز على موسكو وطهران كحُماة لبشار ينبغي ألا ينسينا السؤال القديم للقوى الغربية المؤثرة عن البديل، بل تورط بعضها في صرف النظر عن التغيير نهائياً والقبول بإعادة تدوير بشار. طرح المجلس العسكري كبديل لبشار ينبغي أن يحظى بقبول هذه القوى جميعاً، والقبول ينطوي على تأثير الخارج في تركيبة المجلس، وعدم استبعاد تغلّب منطق المحاصصة الذي يعكس خريطة النفوذ الخارجية. بعبارة أخرى، لن يكون هناك مجلس عسكري ما لم تُرضِ تشكيلته مختلف القوى النافذة في سوريا.
سيكون أشبه بالمراهقة السياسية الظنُّ بأن التغيير الديموقراطي مطلب لأيّ من القوى الدولية والإقليمية، فهي جميعاً تفضّل العنف عندما يحقق لها أهدافها، وتجنح إلى الاستقرار “وحتى الاستبداد” متى خرج العنف عن الدائرة المقبولة كانتشار وكهدف. عندما يستنفذ العنف أغراضه، السؤال الأهم الذي تطرحه هذه القوى هو: من سيضبط الأوضاع في سوريا فلا تكون ساحة للفوضى تهدد الاستقرار الإقليمي؟
لقد وُجّه السؤال مراراً إلى وفود من المعارضة: ماذا أنتم فاعلون إذا تنحى بشار؟ ألديكم إمكانية للسيطرة على الجيش والمخابرات؟ أأنتم قادرون على مواجهة فوضى السلاح والإرهاب؟ بصرف النظر عما في الأسئلة من ذرائع، وعن عدم أخلاقيتها إذ تفضّل نظام إبادة على احتمال فوضى قد لا تكون أكثر دماراً مما حصل فعلاً؛ هذه هي الأسئلة التي لا تجيب عليها أفكار عمومية تنص على إعادة هيكلة الجيش والمخابرات، لأن عملية الهيكلة تستغرق إدارة ووقتاً لن تنتظر الفوضى المحتملة توفرهما.
بعبارة أوضح، المجلس العسكري هو ضمانة للخارج من أجل نيل موافقته على التغيير، ومن الوهم الظن بأن الخارج الذي اتفق على قرار مجلس الأمن 2254 “بنصه على تشكيل هيئة حكم انتقالي” سيلتزم بالقرار ما لم تكن الهيئة الانتقالية عسكرية أو واجهة لتحالف من العسكر والمخابرات يمسك فعلياً بالبلد. أبعد من ذلك، ستكون نقلة ضمن الواقع السوري وجود رئيس مدني بمثابة واجهة للعسكر، بمعنى أن يُضطر العسكر للمرة الأولى إلى التواري خلف واجهة مدنية فلا يحكمون البلد كما فعلوا مع كل انقلاب قاموا به.
قد يكون صادماً قولنا أن أفضل سيناريو واقعي راهن هو الانتقال من استبداد عائلة الأسد إلى نظام ديكتاتوري، بما يعنيه أصل الديكتاتورية بكونها إجراءً استثنائياً، ضمن ظروف استثنائية تزول بزوالها، وأيضاً بما تعنيه كنظام يلقى قبول النسبة الأكبر من السوريين وفق الشروط التي تنص على كونه استثنائياً وانتقالياً. أسهل ما يمكن قوله في مواجهة هذا الطرح أن السوريين ثاروا وقدّموا التضحيات من أجل الحرية والديموقراطية، وما دونهما لا يليق بتضحياتهم ولا يجوز قبوله. وأسهل ما يمكن الرد به أن السوريين لم يثوروا كي يقدّموا التضحيات التي أُجبروا عليها، وبالطبع لم يثوروا من أجل أن تتصدر الساحة مجموعة من المعارضين الفاشلين، إذا تغاضينا عن ارتهانهم لمختلف قوى الخارج.
اليوم، أي كلام في السياسة يتلطى خلف الثورة هو كلام مغشوش، هو ليس كلاماً في السياسة إلا بما يخفيه من غباء أو خبث. الواقعية لا تعني الاستسلام، بل تعني البحث عن الممكن، وأي ممكن يبدأ برحيل آل الأسد عن السلطة سيفتح على ممكنات أخرى في المستقبل، لأن بقاء حكم السلالة بمثابة حرب دائمة وحجب للمستقبل معاً. في حالتنا، الخلاف على جلد الدب خارج السياسة بالمطلق، فهو لا يحدث قبل صيده فحسب، بل قبل تفضّل الآخرين بصيده وتقديمه مجاناً لمعارضينا الأشاوس!
حسناً.. كاتب هذه السطور أيضاً لا يحب العسكر ولا مجالسهم، ويعرف أنهم متى حازوا السلطة لن يفرّطوا بها، وعلى الأرجح سيضطر السوريون إلى ثورة لاحقة للتخلص منهم. إننا جميعاً لنتمنى تدبيج عشرات السطور بما يتناسب مع أمنياتنا لبلداننا، إلا أن أحلام اليقظة لا تصنع سياسة ولا تقدّم الحل للسوريين الذين ينتظرون الخلاص من سلطات الأمر الواقع الحالية، للسوريين الذين يريدون رفع أقدامهم من فوق ألغام الماضي ووضعها على أشواك المستقبل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت