السوريون إذ يتمنون أن يفعلها بوتين
بدأت القوات الروسية مناورات جديدة في سوريا يوم السبت، ومن ضمنها تعمّدت الطائرات الروسية الاقتراب الاستفزازي من مواقع نظيرتها الأمريكية شرق الفرات، واختبرت لأول مرة في سوريا صواريخ كينجال الأسرع من الصوت. قبل بدء المناورات الأخيرة بخمسة الأيام كان وزير الدفاع الروسي قد قام بزيارة مفاجئة إلى قاعدة حميميم، وإليها استدعى بشار الأسد للقائه، بما يوحي وكأنه يطلعه على توجهات روسية متصلة بالميدان السوري في موازاة التصعيد على الجبهة الأوكرانية.
إذاً، بادرت موسكو على نحو يُراد له أن يكون فاضحاً إلى الربط بين أوكرانيا وسوريا، فلم يعد ذلك استنتاجاً نصادفه هنا أو هناك. هذا الربط راح يتعزز أيضاً في الخشية التي يفصح عنها سوريون من دفع ثمن جديد لحساب الجبهة الأوكرانية، خاصة إذا حدثت تهدئة فيها وأُعطي بوتين ثمناً سورياً كافياً ليظهر كمنتصر. بعبارة أخرى، الحرب في أوكرانيا ليست السيناريو الذي يخشاه السوريون.
إننا فقط نترجم الخشية السورية الشائعة من اتفاق غربي-روسي، ليكون فحواها تفضيل الحرب في أوكرانيا على التسوية. أبعد من ذلك، لا يُستبعد أن يكون خيار الحرب هو المفضّل لدى بعض السوريين ظناً بأن المواجهة الغربية-الروسية ستدفع الطرف الأول إلى التصلب تجاه الوجود العسكري، بعدما أذِنت العلاقة الطيبة بينهما باحتلال روسي تم بسلاسة، وصولاً إلى البعض اليائس الذي يريد الحرب “وربما أية حرب كبرى” على مبدأ “من بعد ما حصل لسوريا فليأتِ النيزك”.
هناك سوريون يتمنون أن يفعلها بوتين، فيرتكب “حماقة” غزو أوكرانيا، ويدفع ثمن توسعه من القرم إلى سوريا. يدعم سيناريو محاسبة بوتين أن أوكرانيا ليست سوريا، والمفاضلة بين البلدين مصدر غصّة نصادفها هنا وهناك، مصدرها الاستنفار الديبلوماسي والمخابراتي الغربي الحالي بالمقارنة مع عدم الاكتراث عندما حصل التدخل العسكري في سوريا. بالطبع، ثمة شريحة واسعة أيضاً غير مكترثة إطلاقاً بما يحدث في أوكرانيا، والهمّ الملحّ لأفرادها لا يتعدى الحصول على الغذاء والقليل من التدفئة.
ربما إلى الشريحة الأخيرة تنضم نسبة ساحقة من شعوب العالم غير المكترثة بتطورات الأزمة الأوكرانية، والمنشغلة بقضاياها وهمومها الداخلية على اختلاف مستويات معيشتها. إلا أن المهتمين بالشؤون الخارجية في مختلف البلدان الغربية هم أميَل إلى خيار السلم، ولا يريدون حرباً باردة عالمية أخرى على خلفية الاحتلال الروسي المرتقب لأوكرانيا. لا نستبعد من بين المهتمين شرائح مضادة للحرب عموماً، من منطلق التحذير من ويلاتها على المدنيين والفئات الأضعف.
عن الويلات المنتظَرة، كان طيران بوتين قد قدّم شرحاً وافياً بقصفه المدنيين السوريين، بل قصفه المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين، وسبق له تقديم توضيح كافٍ في مواجهة ثورة الشيشان. ذلك كله على الأرجح ليس ما يتوارد إلى أذهان الذين يتمنون أن يفعلها بوتين في أوكرانيا، فالحرب وفق ما يتمنون هي أقرب لأن تكون فكرة مجرّدة ربما يستفيد من اندلاعها السوريون، وفي الحد الأدنى لا يخسرون ما قد يخسرونه في التسوية.
سيبدو لوهلة منافياً للحس الإنساني ألا يفكّر متأذّون راهنون من الحرب بشعب آخر سيلاقي مصيرهم فيما لو اندلعت الحرب في بلاده، وقد يفترض المنطق أن الجرح السوري الطازج سيجعل السوريين أكثر حساسية إزاء معاناة الآخرين. لكن ما يعيق الاعتبارات الإنسانية الوجيهة أن السوريين عانوا ويعانون من قلة حساسية الآخرين إزاء مأساتهم، ومن شعور فادح بلامبالاة عالمية إزاء مصيرهم، ومن المرجح أن حساسيتهم تجاه الأوكرانيين كانت ستختلف لو أبدى العالم تضامناً أعمق معهم.
ثم إن العالم الذي يُظهر تضامناً مع أوكرانيا لا يقدّم نموذجاً حقيقياً محترماً، وكان خطاب الرئيس الأوكراني مؤخراً في قمة ميونيخ أفضل رد ممكن ديبلوماسياً على قادة الغرب الذين يهددون بوتين بعقوبات غير مسبوقة عندما يحتل أوكرانيا. بمعنى أن هؤلاء القادة، الواثقين جداً من معلوماتهم الاستخباراتية، غير مستعدين لأي فعل استباقي يدفع ويلات الحرب والاحتلال عن الشعب الأوكراني. العالم نفسه الذي صمت عن المجازر في سوريا مستعد لتقبّل فكرة تكرارها في مكان آخر، وإنْ بثمن اقتصادي لاحق تدفعه موسكو.
الربط بين أوكرانيا وسوريا هو الوجه الآخر “المؤذي” لفكرة العالمية، فالقيَم العالمية المنشودة مبنية على التضامن الإنساني، وعلى التكامل بديلاً عن صراعات استنزفت وتستنزف طاقات وثروات الشعوب. في حين أن الربط السياسي أو العسكري كان مؤداه في أغلب الأحيان قبض ثمن هنا لقاء ثمن هناك، وأسلوب المقايضة هذا على حساب الضعفاء يجعلهم بمثابة أعداء بحكم تضارب المصالح التي يقرر الكبار قسمتها. في الربط السوري-الأوكراني الراهن، يُفترض نظرياً أن يتوفر عنصر التضامن حتى من منطلق وجود عدو واحد، إلا أن الخوف من المقايضات القذرة يجعل من بعض السوريين في موقع مشجعي بوتين على الحرب، ولا يُستبعد وجود أوكرانيين يتمنون الخلاص من شبح الحرب ولو نجوا منها بتسوية على حساب السوريين.
تقدّم لنا اللحظة الحالية والتكهنات حول آفاقها صورة عن الكيفية التي يُراكَم من خلالها العنف، وكيف يصبح تمني العنف أو التشجيع عليه مصلحة للضحايا، ولو أودى بضعفاء مثلهم. لقد صُنعت للتو، من المقتلة السورية، لامبالاة شديدة القسوة تجاه المصائب المحدقة بشعوب أخرى، بل هناك لا مبالاة فظيعة متبادلة بين السوريين أنفسهم. هذا الفائض من مخزون العنف ليس حكراً على السوريين، ومن المرجح وجوده لدى كافة الشعوب التي أصابها ما أصابهم، ولو بنسب متفاوتة لها علاقة بجِدّة المأساة وحجمها.
سيكون خارج السياق القول أن الربط بين أوكرانيا وسوريا ليس حتمياً، وفي الاحتمالات متسع لتسويات من نوع آخر، لأن فكرة المقايضة بين البلدين ستخلّف آثارها السلبية طالما بقيت متداوَلة. وإذا وقعت الحرب فمن آثارها تحويل الأوكرانيين إلى سوريين جدد، إلى ضحايا يفقدون حساسيتهم إزاء العنف الواقع على آخرين، ولا يندر بين الأشد نقمة منهم على العالم أن يتطوع البعض ليفعل بنفسه ما كان ينتظره من النيزك الذي لا يأتي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت