لم يكن للمجتمع السوري تجربةً تراكميةً سياسية أو اجتماعية حقيقية استمرت لأكثر من 10 سنوات منذ بدايات القرن العشرين حتى انطلاق الثورة السورية عام 2011، أي لأكثر من 100 عام لم يُشارك الفرد السوري في أيِّ ممارسةٍ تُكسِبه المعرفةَ السياسية التي تُفضي إلى مُنافَسَةٍ حزبية وسياسية على السُلطة؛ أو حتى حراكٍ نقابي يُمثِّل فئاتَ المجتمع أمام السُلطة الحاكمة، ويُطالب بحقوقها ويدفع باتجاهِ إصدار القرارات المُنصِفة لهم، كُل هذه الممارسات الطبيعية لم يُكتب لأيِّ مواطنٍ سوريٍ أن يعيشَها في ظِلِّ تتابع الجهات والدولِ المسيطرة على سورية، وتواتر الانقلابات العسكرية، إضافةً إلى المشاريع الإقليمية المستوردة من قِبلِ بعضِ النُخب، مما حوَّل البلادَ إلى ساحةٍ مفتوحةٍ وجاهزةٍ لقدوم أيِّ نظامٍ ديكتاتوري ليحكمها ويُطَبِقَ قَمعهُ واحتكاره للأجواء السياسية والاجتماعية فيها، في ظل غياب الأطر الدستورية والقانونية التي تعمل على صيانة العمل المدني وحمايته.
نقاباتٌ تُحاوِل صياغةَ الهويةِ الوطنية
لم يَكُن للفَردِ السوريِّ أيُّ فرصة في المشاركة السياسية الحقيقية أيامَ التواجدِ العُثماني في سورية، مما حَرَمَهُ من التفاعُلِ مع الوسط الإقليمي المحيط به، وعوَّضَ عن ذلك على الصعيد المهني وجودُ منصب “شيخ الكار”، الذي كان بمثابة رئيس النقابة في المهن، حيث كان يمُثِّل المرجعية الأعلى في الخلافات بين أبناء المهنة الواحدة ويُعيَّن بناءً على سنين الخبرة في المهنة، كما كان ينقُل مطالبَ أبناءِ المهنةِ ومشاكلِهم إلى الوالي أو من يُمَثِلُه في المدن، ومع نهاية الإمبراطورية العثمانية وادخال سورية ضمن اتفاقية سايكس بيكو؛ بدأت تبرُزُ النُخب في قِطاعاتٍ عديدة.
فمع بدايات الاحتلال الفرنسي لسورية ظَهَرَ التفاعل الاجتماعي ضد تواجده بالإضافة إلى تفاعُل الجماهير مع المُتغيراتِ الإقليمية بعد انتشار أنباءِ وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وبالتالي وَجد المجتمع السوري نفسه متفاعلاً محلياً وإقليمياً، مما أفضى إلى بداية تشكُّل عدد من النقابات مثل نقابة المحامين برئاسة فارس خوري عام 1920 وتبلور الحركة العمالية في نهاية العشرينات، مما أعطى المجتمع السوري بُعداً تنظيمياً جديدة تجلَّى بوضوحٍ إبان الثورة السورية الكبرى 1925 والدعم الجماهيري لمسودة أول دستور في تاريخ سورية عام 1928.
ظهرت النقابات والاتحادات تباعاً بعد الدخول الفرنسي لسورية مثل الاتحاد النسائي السوري وبعض الحركات الطلابية التي كانت منتشرة في المدارس وفي جامعة دمشق إبان تأسيسها عام 1923، حيث كان دور النقابات والاتحادات المُشكَلة في تلك الفترة، الوقوف في وجه قرارات المحتل ودعم قرارات الكتلة الوطنية في بعض الأحيان، ولكن لاحقاً تطوّر الدور النقابي والمجتمعي ليُصبح مُتقدماً على التيارات السياسية المنتشرة، حيث تمسَّك الحراك الطلابي في دمشق بالإضراب الستيني ( نسبة لاستمراره ستين يوماً) على الرغم من تراجع الكتلة الوطنية عنه كما ذكر أكرم حوراني في مذكراته بأن الطلاب رفضوا حينها إنهاء الإضراب على الرغم من دعوة الكتلة الوطنية لهم لأنه لم تتحقق مطالبه.
وبالفعل استمر الإضراب حتى قبول الفرنسيين بالتفاوض مع الكتلة الوطنية، وبالتالي سَجَّلَ الحراك النقابي أول حالة يسبق فيها النُخب المهيمنة على الساحة في تلك الفترة من ناحية التفاعل مع المستجدات وقيادة الشارع السوري، وتجاوز الأمر الجغرافية السورية عندما وقَّعَ الطلاب على رسالةٍ أُرسلت حينها إلى رئيس الوزارء المصري مصطفى النحاس أدانوا فيها إطلاق النار على الطلاب المصريين ومقتل عدد منهم بسبب مظاهراتهم المناهضة للاحتلال الانكليزي، وبالتالي أصبح الحراك النقابي يَرسم حراك المجتمع السوري ليس داخلياً فقط بل حتى ردات فعله اتجاه التطورات العربية والإقليمية.
استمر العمل النقابي بمختلف أنواعه في تنظيمه للحراك ضمن المجتمع مواكباً لكل التطورات الداخلية والخارجية حتى على صعيد حالات القمع في البلاد المجاورة، مثل اعتقال القوات الفرنسية لعدد من النخب والمفكرين اللبنانين كرياض الصلح وعبد الحميد كرامي مما أدى إلى مظاهرات في المدن السورية كلها تنديداً بذلك، على الرغم من تهديد الرئيس شكري القوتلي للطلاب المتظاهرين بالفصل من مدارسهم ولكن استمرت التظاهرات مُنذِرةً النخبة السياسية في سورية أن عهد قيادة المجتمع بأسلوب الأحزاب والكتل الوطنية قد ولَّى وأن كلمة الشعب أصبحت أكثرَ فاعليةً من الخُطَبِ الرنانة والتفاهمات السياسية.
العمل النقابي في وجه العسكر
كانت تنحصر أدوار الكيانات النقابية في مرحلة ماقبل الاستقلال ضمن المواجهة مع محاولات الاحتلال الفرنسي إنهاءَ أيِّ حراكٍ وطني، بالإضافة لمواكبة حركات التحرر في الوطن العربي ابتداءً من فلسطين مروراً بمصر وانتهاءً بلبنان، وبالتالي كانت المواجهة بين أبناء البلد والمحتلين الذين سُلِّطوا عليه، ولكن بعد الاستقلال تغيَّر طرفا المواجهة؛ حيث أصبحت النقابات تحاوِّل إيجاد مساحةٍ لها ضمن الجو السياسي المُصطَف سابقاً والجاهز للصراعِ على القيادة السياسية للبلاد، مما أفضى إلى انقلابِ العسكر على الجميع بعد 4 سنوات من الاستقلال، وشَهَدَ الوطن العربي حينها أول انقلابٍ عسكريِّ كانت سورية ضحيته، حيث انقلب حسني الزعيم على السلطة المدنية وعين نفسه رئيساً للبلاد بدلاً من شكري القوتلي، وبانقلابه افتتح سلسلة الانقلابات العسكرية وحكم العسكر للدولة الذي لمَّا يُغلَق بعد.
كان انقلاب الزعيم بداية خَنقِ المجتمع المدني وتحوُّلُ دوره من تنظيم المجتمع إلى الاصطدام مع العسكر في محاولة منه لخلق مساحة حرة جديدة لعمله، حيث أغلق الزعيم عدداً كبيراً من الصحف ووضع قيوداً على حق التظاهر، بالإضافة لتأميم فكرة الأوقاف والبُنى التابعه له التي بقي معمولاً بها من أيام الوجود العثماني حتى انقلابه، وسار على نهجه قادة الانقلاب اللاحقين مثل سامي الحناوي وأديب الشيشكلي الذي رفع من حِدةِ قمعه للعمل الاجتماعي والسياسي بعد منعه عدداً من الأحزاب عام 1952، وتأسيسه لفلسفة عسكرة السياسية بعد تأسيسه لحزب التحرير العربي، وتعيين نفسه رئيساً للبلاد حتى هروبه إلى لبنان عام 1954 بعد فشله في مواجهة ثورة شعبية مناهضة له في أنحاء البلاد.
تلى هروب الشيكلي 4 سنوات من الانفتاح السياسي والانتخابات البرلمانية بين عامي 1954 و1958، وذلك بالتزامن مع عودة الحركات النقابية لدورها الأساسي في تمثيل الطبقات المجتمعية وبدء تبلورها قانونياً بعد أن عزز دستور عام 1950 من مساحة العمل المدني والنقابي، حيث تجلت تلك المساحة في حرية العمل المدني ضمن المادة 17 من الدستور التي أعطت المواطنين الحق في تشكيلِ الجمعياتِ ومُمارسة العمل النقابي وتخفيف سطوة الدولة عليه، ولكن الوحدة بين سورية ومصر التي جاءت بمشروع عبد الناصر أفرزت قوانيناً تؤطِّرُ العمل النقابي تحت عباءة العسكر المُنقلبين على السلطات المدنية.
جمال عبد الناصر وفلسفة الاستبداد النقابي
لم تَكُن الوحدة بين سورية ومصر مُجردَ حُلُمٍ حَمَلَ في طيات بدايته تفاؤلاً من الشعوب العربية ببداية عهد التعاون العربي والتنسيق وتحقيق شعارات الوحدة لمواجهة العدو الاسرائيلي، بل كانت عهداً مؤسساً “على الرغم من قُصرِه” لفكرة الدولة الشمولية التي لا تمنع العمل المدني فَحسب؛ بل تَجعلُ منه أحدَ أدواتِ ضَبطِ المجتمعِ وتسويقِ رواية النظام الحاكم داخلياً ودولياً.
استهل عبد الناصر عهده بقانونِ حلِّ الأحزابِ السورية وأتبعه بعدة قوانين مهدت لتأطير العمل النقابي والمجتمعي ضمن رؤية الدولة، حيث أصدر القانون رقم 93 لعام 1958 المتعلق بالجمعيات والمؤسسات الخاصة المُتضمن أداة تحكُّم الدولة بمصادر تمويل الجمعيات والنقابات والذي بقي جوهراً لكل القوانين والمراسيم التي صدرت لاحقاً حتى الوقت الحالي، كما أصدر القانون رقم 184 لعام 1958 كأول قانون لتنظيم الجامعات في تاريخ سورية، والذي حَيَّد بشكلٍ كاملٍ أيَّ دورٍ للعملِ الطلابي ضِمن العملية التعليمية، أو في العلاقة بين إدارة الجامعات وعلاقتها بالوزارات المعنية، أو حتى وجود ممثلين عن الطلاب أمام السلطات الإدارية والتعليمية.
أفضت هذه القوانين إلى إنشاء بنية قانونية لمصادرة الحريات في البلدين ومنع أي حراك مدني لايخدم الدولة، واستمر الأمر نفسه في كلا البلدين حتى بعد الانفصال، حيث كانت البيئة القانونية مُهيئة لاستمرار عبد الناصر في سياساته الأمنية ضد شعبه في مصر ولقدوم حزب البعث بعد انقلابه عام 1963 إلى السلطة وسيطرته على بلادٍ لاتملك كُتلاً سياسية فاعلة ولاحراكاً مدنياً نشطاً، وبالتالي جاء البعث إلى وطنٍ يَحمل كل مقومات القبول بأن يحكمه نظام عسكري من دون أن يهدد وجوده عمل نقابي يُنظم الجماهير أو يطالب بحقوقها.
وختاماً، لم يكتفي البعث باستغلال إرث عبد الناصر بل عدَّل عليه وصَنعَ عملاً نقابياً هُلامياً زاد من تجذُّرِهِ في المجتمع، وعن كيفية تمكن البعث من صياغة أدواته في العمل النقابي وقوننة احتكاره له؛ سيكون المقال القادم “العمل النقابي في سورية (2) – بعثنة المجتمع وعسكرة النقابة”
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت