تتعقّد العوامل والمعادلات التي دفعت لواحدة من أكبر المناوشات الأميركية – الإيرانية، في شرق سوريا، بالتزامن مع أعنف ضربة إسرائيلية تستهدف منشآت إيرانية في البلاد، خلال الأسبوع الفائت. هذا التعقيد يدفع للحذر في الرهان على خفض التصعيد بين طهران وواشنطن، رغم أن ذلك يبقى السيناريو الأرجح. فرهانات المتشددين في العاصمة الإيرانية وحلفائها في الميليشيات العراقية، النابعة من حالة الاستخفاف برد الفعل الأميركي، إلى جانب الرهانات الإسرائيلية على المزيد من الانسحاب التكتيكي الروسي في سوريا، تبقى تخيّم على المشهد في المستقبل القريب.
أولى العوامل المؤثرة في المشهد، تلك المتعلقة بسحب روسيا للمزيد من عتادها العسكري من سوريا، لدعم مجهودها الحربي في أوكرانيا. وكان أبرز نتائج ذلك الانسحاب التكتيكي الروسي، هو الهجوم الإسرائيلي الأعنف على مركز البحوث العلمية بمصياف، بعد سحب روسيا لبطارية الدفاع الجوي “إس – 300″، المستخدمة في تأمينه. لكن روسيا ما تزال تحتفظ بمنظومات دفاع “إس – 300″، في مواقع أخرى من سوريا. ورغم أن هذه المنظومات لم تستخدم في استهداف الطائرات الإسرائيلية، مطلقاً، باستثناء حدث عَرَضي في أيار/مايو الماضي، لم يتكرر، إلا أن هذه المنظومات تبقى مؤثرة في تقليص هامش المناورة أمام سلاح الجو الإسرائيلي. ناهيك عن أن روسيا يمكن لها أن تتيح لإيران نصب منظومات دفاع جوي خاصة بها، ذات قدرات شبيهة بـ “اس – 300”. وهو ما يقودنا للمعادلة الأولى التي تحكم تطور المشهد مستقبلاً. فروسيا أتاحت لإسرائيل استهداف واحدة من أهم منشآت إيران في سوريا، في الوقت نفسه، تملك روسيا القدرة على عكس هذا التطور. أي إن روسيا ما تزال طرفاً فاعلاً، وبتكلفة منخفضة للغاية، في مسار الحرب الباردة بين إيران وإسرائيل، على التراب السوري. وهو ما يترك المستقبل مفتوحاً على احتمالين. إما تصعيد الهجمات الإسرائيلية بوتيرة أعنف، من قبيل هجمة مصياف الأخيرة، بضوء أخضر روسي، أو عكس ذاك المسار. وهذا يتوقف على ما تريده موسكو في سياق “تعاونها التنافسي” مع إيران، في سوريا.
ثاني العوامل المؤثرة في المشهد، ما يبدو أنه تنسيق بين القوى المحسوبة على إيران، والمتحالفة معها، بما فيها، النظام السوري، في رسم استراتيجية الرد على الهجمات الإسرائيلية في سوريا. وذلك وفق التسريب الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، مؤخراً، عن اجتماع دار قبل نحو عام، ضم خبراء عسكريين من سوريا والعراق وميليشيا حزب الله اللبنانية وميليشيا الحوثي اليمنية وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. ووفق التسريب، فإن النظام السوري طلب عدم شن هجمات ضد إسرائيل انطلاقاً من الأراضي السورية، خشية المخاطرة بحرب شاملة. وانتهى الاجتماع إلى اتفاق على الرد على الضربات الإسرائيلية، بضرب القواعد الأميركية في سوريا، للضغط على واشنطن كي تدفع إسرائيل للتراجع عن ضرب إيران في سوريا. وهو ما حدث بالفعل، إذ إن هجمات الميليشيات الإيرانية الأخيرة على القواعد الأميركية جاءت بعد ليلة من هجوم إسرائيلي على منشآت إيرانية في دمشق وطرطوس.
يقودنا هذا العامل إلى معادلة مهمة، تتعلق بمدى استخفاف إيران وحلفائها برد الفعل الأميركي في المنطقة، مقابل الخشية من رد الفعل الإسرائيلي. وهي المعادلة التي دفعت واشنطن لشن واحدة من أعنف هجماتها على الميليشيات الإيرانية بعد استهدافها لقواعد التنف والعمر الأميركية في سوريا. لكن رد الفعل الأميركي، رغم نوعيته من حيث الحجم، إلا أنه بقي مقيداً برسائل عدم تصعيد أُرسلت عبر القنوات الخلفية إلى طهران، وفق مصادر إعلامية.
تقودنا المعادلة الأخيرة، إلى عامل جديد يؤثر في المشهد. يتعلق بتفاقم النقمة الشعبية ضد الميليشيات الموالية لإيران في العراق، وسط صراع سياسي تميل كفته لصالح قوى شيعية ليست تابعة لإيران. وهو ما يدفعنا لربط ذلك بهجوم التنف قبل أسبوعين، والذي تم بطائرتين مسيرتين انطلقتا من محافظة بابل، من قاعدة لحزب الله العراقي الحليف لإيران. مما يعني أن الميليشيات العراقية الحليفة لطهران كانت تستجر رد فعل أميركيا، ربما أرادت منه استنهاض الحس الشعبي المناوئ لواشنطن في العراق، لتدعيم موقفها بالداخل. وهو ما لم تفعله واشنطن، التي حصرت رد فعلها على القواعد الإيرانية في شرق سوريا. هذا المؤشر يؤكد معادلة استخفاف إيران وحلفائها، برد الفعل الأميركي.
النقطة الأخيرة، تنقلنا لعامل آخر، يتعلق برفض متشددين داخل تركيبة النظام الإيراني، لإعادة إحياء الاتفاق النووي، الذي سيضع حداً لحلم هؤلاء بأن تكون إيران قوة نووية. ففي تحليل نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، مؤخراً، يبدو أن المسؤولين الإيرانيين يسعون لبناء إجماع داخلي، وتهيئة أنصار النظام الأكثر تشدداً لاحتمال إعادة إحياء الاتفاق النووي، بنفس التكتيكات التي استُخدمت عشية إنهاء الحرب العراقية – الإيرانية، عام 1988. مما ينبئ بوجود انقسام في أوساط النخبة الإيرانية حيال ذلك. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ما أكده الرئيس السابق حسن روحاني، من أنه كان من الممكن إعادة إحياء الاتفاق، خلال ولايته، لولا القانون الذي مرره المتشددون في “مجلس الشورى الإسلامي”، في نهاية العام 2020، والذي ألزم الحكومة بتقليص التزاماتها بموجب الاتفاق النووي. وهو ما يقودنا لمعادلة خطرة، وجود معارضة داخل قوى فاعلة بالنظام الحاكم بطهران، حيال إنهاء حلم “القنبلة النووية”، مُضافاً إليها الاستخفاف برد الفعل الأميركي، ينتج عنه احتمالات خلط أوراق وتصعيد من جانب الميليشيات المحسوبة على المتشددين.
وهكذا، يمكن الاستنتاج بأن سيناريو خفض التصعيد بين واشنطن وطهران، في الأسابيع المقبلة، رغبةً في إحياء الاتفاق النووي، ليس الاحتمال الوحيد لما يمكن أن يحدث في قادم الأيام، بسوريا، أو حتى في العراق. فالمشهد مفتوح على احتمال آخر، أن ينفلت التصعيد من عِقاله، بين جميع الأطراف.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت