قبل أسابيع قليلة ليس إلا، كان مجمل الحراك السياسي العربي تجاه بشار الأسد يوحي بأنها “خلصتْ”، خاصة لأولئك الذين لمآرب متنوعة ومتباينة ينتظرون إنهاء القضية السورية باعتبارها شأناً دولياً لا غير. و”خلصت” هو تعبير مختزل جداً استخدمه موالو الأسد منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة، ثم تفاوت استخدامه صعوداً وهبوطاً حسب تطورات الحرب قبل التدخل العسكري الروسي. وكان يُقال أحياناً، زيادةً في التأكيد: خلصتْ وفشلتْ. ذلك عطفاً على وصف الثورة بـ”الفورة”، بمعنى أنها مجرد عارض عابر وانتهى، فضلاً عن كونها في الأصل “مؤامرة” خارجية.
لسان حال المتحمسين للتطبيع مع الأسد “خلصتْ”، والمقصود بها ليس انتهاء الثورة، فهذا لم يعد موضع جدال منذ سنوات. المقصود هو انتهاء الصراع الخارجي حول سوريا بقناعة لدى جميع أطرافه ببقاء بشار، وهذه القناعة تأخذ طريقها إلى التطبيق حثيثاً. ثم، بناء على هذه القناعة الراسخة “الواقعية”، ستأتي لا محالة لحظةُ التطبيع الكبرى، لتُطوى بلا رجعة الصفحة “المشؤومة” لآذار2011.
بعض المتحمسين هم من أنصار الأسد المعلَنين أصلاً، وهم واضحون لجهة تعبيرهم عن انتشائهم بالنصر، النصر الآتي من “صمودهم”، ومن وصول أرباب “المؤامرة الكونية” إلى الإقرار بهزيمتهم إزاء ذلك الصمود. هو خطاب الممانعة المعهود ذاته، لذا نراه بصياغات متقاربة بين موالي الأسد المحليين وموالي طهران الأوسع انتشاراً، وقد يتزود بنكهة روسية لزوم ادّعاء عالمية المحور المضاد للغرب وقيمه الليبرالية.
الفئة السابقة، المعروفة والمكشوفة، نالت مؤخراً دعماً من جهة الواقعيين الذين كانوا خصوم الأمس بموجب تحليلاتهم للصراع، وتوصلوا اليوم إلى الاقتناع بانتهائه. أولئك الذين كانوا ضد بشار عندما كان الغرب صارماً بالإعلان عن عدم التطبيع معه، ومشدِّداً العقوبات عليه وعلى الطغمة المقرّبة منه مخابراتياً وعسكرياً ومالياً. الواقعية التي كانت تعني الاصطفاف مع الغرب من قبل هي ذاتها التي تملي على هؤلاء النظر إلى التطبيع مع بشار بواقعية، والأخيرة من وجهة نظرهم تنطوي دائماً على القبول بما هو موجود ربطاً بفعالية وحيدة لتغييره مركزها الغرب.
المتحمسون “منا” للتطبيع مع الأسد موجودون أيضاً، وبدأت طلائع أصواتهم بالبروز مؤخراً، والـ”منا” عائدة على بعض الذين قدّموا أنفسهم بعد انطلاق الثورة كمعارضين، أو كمعادين للأسد، أو أوحوا بواحد من الموقعين حيث “نظرياً” تبقى التدرجات ضمن الجهة الواحدة. في هذه الحالة، الحماس غير معلن، بل يُمرَّر من خلال تحليلات تبدو تقنية لا انحياز لأصحابها؛ إنهم فقط أمناء في نقل ما يحدث، ولا يتحملون مسؤولية أي استنتاج مبني على انتقائهم الأحداث والأخبار وطريقة تقديمها وصياغتها.
للمهزومين “منا” نصيبهم من المساهمة في تيار التطبيع، حيث إعلان الهزيمة لدى البعض مساوٍ للاستسلام والقبول بالأسد. مرة أخرى، باسم الواقعية، تُسوَّق مفاهيم على أنها متساوية في المعنى أو متطابقة، مثل الإقرار بالفشل والاستسلام والانصياع لرغبات دولية أو إقليمية، وهذا الخلط لا يمكن ردّه دائماً إلى حسن النوايا، أو إلى اعتباط في التفكير، فهو لا يخلو من خبث وجد فرصة سانحة للتخفف من الفورة التي وضعته في ثورة الأمس.
من بين المهزومين مَن يستعذب الهزيمة! ولدينا في أدبياتنا وأدبنا تراث ضخم من مازوشية الهزيمة، كتابات لمصدومين بالهزيمة أمام أعداء الخارج، ويائسين من إمكانية التغلب عليها، فمجتمعاتنا مهزومة بطبيعتها، وبحاضرها ومستقبلها. يكفي تحوير الإرث السابق لتكون الهزيمة أمام عدو الداخل، والبعض طالما رآه من قبل امتداداً لعدو الخارج، ليرجع المهزوم إلى “معاقرة” يأسه القديم بعد آمال زائفة “لمناسبة الثورة” ليست من صلب قناعاته الراسخة.
تقدِّم السياسات الدولية، المتغيرة وغير المبدئية، الأسباب لتحليلات متغايرة، وعلى رأسها بالطبع السياسة الأمريكية التي تُصوَّر كأنها أعطت إيعاز الإسراع بالتطبيع ثم فرملته. يُنسى في هذا السياق أن سوريا غير موضوعة ضمن أولويات واشنطن، ولا قيمة استراتيجية لها بمعزل عن ملفات أخرى متقدمة جداً على القضية السورية في سلم الأولويات. فلا التطبيع مع الأسد ولا عدم التطبيع معه مما يشغل بال صنّاع القرار في واشنطن، وهم يفصلون بين القبول ببقائه في السلطة وتعويمه والتطبيع معه، فلا يؤدي مبدأ القبول تلقائياً إلى التطبيع أو الاحتضان.
سبق للعالم كله أن تعايش مع وجود سلطات إبادة وجريمة من دون السعي إلى إسقاطها، ومن دون إقامة علاقات طبيعية معها، وسبق أن تُركت “شعوبها” عزلاء بلا رحمة. في مثال طازج، قد تُترك أفغانستان هكذا تحت حكم طالبان، بلا اعتراف بحكمها وتطبيع معه، وبلا أدنى محاولة لإزاحتها من السلطة مرة أخرى. العالم نفسه لم يهرع إلى إسقاط الخمير الحمر في كمبوديا، ولا إلى القبض على عمر البشير المُدان في محكمة الجزاء الدولية لاتهامه بأعمال إبادة، وحصار صدام من دون إسقاطه كان يمكن أن يستمر إلى الآن لولا راديكالية المحافظين الجدد وتأثيرهم على جورج بوش الابن.
في مثال قريب جداً خاص بسوريا، سُحب من مشروع قانون ميزانية الدفاع الأمريكية بند يُلزم إدارة بايدن بتقصي شبكات تجارة المخدرات العائدة للأسد، وأُقرّ بند يطالبها بالتقصي عن مصادر ثروته، هو والمقربين منه. أي أن السياسة الأمريكية لا تسير على هوى المتحمسين الذين ينتظرون منها الخاتمة السعيدة بالتطبيع مع بشار، ولا على هوى الذين يتمنون وجود مخطط لتوريط موسكو وطهران في “المستنقع” السوري. وما هو معلن غيابُ استراتيجية أمريكية تتعلق بسوريا، وقد لا ترى هذه الإدارة أو إدارة لاحقة ضرورة لوضعها، فتتركها معلقة بملفات أخرى.
لا ينطلق المتحمسون للتطبيع مع الأسد من قراءات انتقائية ورغبوية فحسب، إذ من المنتظر في أقرب فرصة أن يظهروا استعلاءهم على أولئك القاصرين عن فهم الواقع، المحتفظين بعدائهم أو معارضتهم للأسد. المسألة لن تكون في أخلاقية أو عدم أخلاقية اصطفافهم مع مرتكب إبادة وجرائم حرب، المشكلة هي في عقولهم التي تختزل السياسات الدولية “المركبة والمعقدة” بنوع من الواقعية المبسَّطة، وتختزل الحراك السوري بوصفهم مغامرة فاشلة و”خلصتْ”. لهؤلاء، لا ينفع التذكير “بخلاف فكرتهم عن الاستقرار” بأن سوريا المعاصرة لم تشهد ذلك الاستقرار سوى بين منتصف الثمانينات وربيع2011، مفروضاً بأعتى قبضة مخابراتية، ولعل تلك الفترة كانت هي الاستثناء.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت