يُعيب البعض على المنادين بالوطنية السورية رومانسيتهم ومثاليتهم، وابتعادهم من الرؤية الواقعية إلى الوضع في سورية الذي يسير في كل يوم بعيدًا من الوطنية وأحلامها، ويقترب أكثر فأكثر من ترسيخ التقسيم. ويركن هؤلاء في تحليلهم، في الدرجة الأولى، إلى موازين القوى الواقعية وحوادث الواقع ودرجة التباعد والكراهية السائدة، ويشاركهم في تحليلهم قوى الأمر الواقع نفسها، بحكم ما لديها من عسكر وعتاد وتأثير وسيطرة.
في الحقيقة، هناك قراءات عديدة للواقع، لكن القراءة السائدة اليوم في سورية هي القراءة الاختزالية والسطحية، إذ يختزل الواقع في الموجودات والظواهر الحسية أو المباشرة، بينما يغيب الواقع بمفهومه الواسع الذي يشمل المسارات والإمكانات الكامنة، فضلًا عن عدم الالتفات إلى أهمية وضع الواقع في مساره التاريخي الذي يحدِّد اتجاهات المستقبل. ويعني ذلك أننا نحتاج حقًا إلى البصر والبصيرة في آن معًا لاكتشاف مشروعية أو إمكانية أي فكرة أو مشروع في الواقع. حكم البصر هو حكم الواقع العياني، المحسوس، المباشر، الآني، بينما تهتم البصيرة برؤية الكوامن والموجودات والعلاقات الاستراتيجية التي تحكم مصائر الظواهر، وتُعقلن السلوك والتكتيكات والمؤقتات.
تتخذ الرؤية الواقعية السطحية من موازين القوى الظاهرة مرجعها الوحيد لتحديد الخيارات، ويغيب عنها أن الواقع شديد التعقيد والتغيّر والتحرّك والتناقض، ومفتوح على احتمالات غير حصرية، ومن ثمّ لا تمكن إحاطته أو معرفته بصورة كلية؛ فكلُّ فردٍ منا يراه من زاويته، وحتى إن افترضنا أن مجموعة من الأفراد يرونه من زاوية واحدة، فإن كلًا منهم يفهمه بطريقته، ويستخدم فهمه بطريقة مغايرة للآخر، ولا يمكن استبعاد تدخّل الأيديولوجية في فهم الواقع المرئي، حتى أن بعضنا يمكن أن يقدِّم الواقع بصورة تتوافق مع أيديولوجيته. أيضًا، الواقع ليس ما نراه فحسب، بل أيضًا ما لا نراه؛ الوقائع الكامنة التي يمكن أن تتحول إلى واقع في لحظة ما، تلك التي لا نستطيع اكتشافها وإدراكها من دون التاريخ والمعرفة.
في سورية، قوى الأمر الواقع معظمها قوى غير استراتيجية؛ قوى مؤقتة، محكومة بأوضاع مؤقتة وسريعة التبدل، بينما القوى الاستراتيجية هي تلك القوى التي تملك درجة ما من الثبات، وتتوافر لها المقومات الواقعية على الاستمرار. القوى المؤقتة هي رهينة العلاقات الإقليمية والدولية، ولا تملك عناصر أو مرتكزات داخلية للقوة، وهذه لا تُختزل في القوة العسكرية، ما يعني أن أي تغيرٍ في العلاقات (تسويات، مساومات، تبادل مواقع…إلخ) من شأنه أن ينعكس سريعًا على مخزون القوة ذاته لقوى الأمر الواقع، مع رجحان احتمالات الاضمحلال أو التلاشي أو تغيير الاصطفاف السياسي. وللأسف، فإن رؤية الواقع بمفهومه البسيط والمباشر مرتبطة بالغرور وردّات الفعل السريعة، فما أن تحظى مجموعة أو فئة ببعض القوة حتى تدير ظهرها لأي اتفاق سابق كانت طرفًا فيه، ما يعني أن الاتفاقات التي تجري في أحوال غير مستقرة كانت اتفاقات هشة، ولا تملك إمكانية الاستمرارية.
هل تتمثل الواقعية بالرضوخ لموازين الواقع الراهن والتنظير لها وشرعنتها أو تطبيعها؟ كان تنظيم “داعش” قوة من قوى الواقع منذ سنوات، وسيطر على ما يزيد على 50 في المئة من مساحة سورية والعراق مدة من الزمن، لكنه تبخّر فيما بعد. لقد اكتسب تنظيم “داعش” ميزان قوى جعله فاعلًا ومؤثرًا في الواقع، لكنه افتقد إلى القابلية للحياة، أو الاستمرارية، أو هو في الأحرى مشروع ولد ميتًا سلفًا، ووحدهم من يقرؤون الواقع سطحيًا وآنيًا من غرتهم قوته، ومن ثمّ لم يستطيعوا رؤية مسارات الواقع المستقبلية.
كان كثير من المحللين “الواقعيين” يرون، مثلًا، أن النظام السوري وصل إلى درجة عالية من الضعف إزاء التنظيمات الإسلامية المتنوعة التي سيطرت على مساحات وساحات واسعة في سورية، لكن الواقعية العاقلة كانت ترى آنذاك أن هذه القوى ضعيفة بالمعنى الاستراتيجي أو ميتة سلفًا، فلو اقتربت من استلام السلطة في سورية لن تجد النظام السوري وإيران وروسيا في مواجهتها فحسب بل العالم كله، ومن ضمنه الدول التي دعمتها ماليًا وعسكريًا. الأمر نفسه ينطبق على “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، فمثل هذه القوى، وإن وصلت على درجة من القوة العسكرية التي تجعلها تغتر بنفسها، وتعتقد أنها قادرة على فعل ما تريد، تبقى قوى مؤقتة أو معدة للاستخدام المؤقت، ولا تملك مقومات البقاء والاستمرارية.
على ما يبدو، يترك الواقع المزدحم بالقوى السياسية والعسكرية، وبالتدخلات الإقليمية والدولية، الباب مفتوحًا للرهانات السريعة والسطحية انطلاقًا من مخزون القوة المادية، العسكرية والمالية، وكثير منها يصبّ في ساحة الوهم أو الاستثمار في الوهم، وهذا حصل كثيرًا خلال السنوات الماضية، وهذه تعكس حجمًا كبيرًا من القراءات الخاطئة للواقع وموازين القوى الحقيقية؛ فميزان القوى لا يمكن احتسابه بالاستناد إلى ميزان القوة العسكري فحسب، لأن مفهومه أوسع كثيرًا من ذلك، إنه يشمل السياسة والجغرافية والديموغرافيا والتاريخ والإعلام والعلاقات الإقليمية والدولية والاقتصاد، وغيرها. وفي السياق هذا، كانت هناك، وما تزال، أوهام عديدة سيطرت على الساحة السورية ونخبها؛ وهم الدولة الإسلامية، وهم الدولة العلوية، وهم الإسقاط السريع للنظام، وهم الدولة الكردية… إلخ.
كان لينين يرى أن السياسة هي العمل في وحل الواقع، وهذا صحيح، لكن ليس بهدف التمرغ في أوحاله، بل من أجل الارتقاء به، بقدر ما نملك من طاقة ومعرفة، وبقدر ما تسمح به إمكانات الواقع الظاهرة والكامنة، ومن دون هذا كنا سنظل أسرى واقعنا، فضلًا عن أن السير مع الواقع إلى حيث تريد موازين القوى الظاهرة أو السائدة في لحظة ما يُفقدنا مبرر الوجود. الواقعية أو الموضوعية لا تعني التسليم بالحتمية والقدرية واليقين إلا بقدر ما تعني الضرورة.
ما أريد قوله هو إن المشروعات السائدة في الواقع السوري اليوم، والتي تظهر قوية ومسيطرة في اللحظة الراهنة، هي مشروعات ضعيفة وهشة على المستوى الاستراتيجي، ولا تملك مقومات الحياة أو الاستمرارية أو الثبات؛ لذلك تتمثل أمنيتنا بإمكان عدم سير قوى الأمر الواقع في طرق مسدودة النهايات أو مطاردة الأهداف الوهمية، لكننا نعلم أن تحقق الأمنية هذه مشروط بحيازة القوى هذه رؤية عقلانية تستطيع استشفاف المستقبل، وهو ما لا يدعو إلى التفاؤل.
الوطنية السورية ليست حتمية، لكنها إحدى ممكنات الواقع، ومن عناصر قوتها الكامنة أنها الإمكان الأكثر شعبية وقبولًا عند أكثرية السوريين، السوريين الطبيعيين، إذا استبعدنا المندرجين في القوى المتحكِّمة في الواقع، على الرغم من كونها الأضعف في موازين القوى الحالية؛ فآراء وتطلعات الأكثرية هذه غير ظاهرة بحكم سيطرة قوى الأمر الواقع، وليس لها وجود سياسي أو عسكري. العنصر الآخر هو اتجاهات العلاقات الدولية والإقليمية التي ترجِّح، في اعتقادي، الحفاظ في المآل على سورية موحّدة، لأن التقسيم لا يصبّ في مصلحتها، كونه قد يجرّ المنطقة كلها إلى التقسيم وحرب الجميع ضد الجميع، فضلًا عن عدم إمكانية تحقّقه ديموغرافيًا واقتصاديًا. سورية مفتوحة استراتيجيًا على خيارين، إما الوطنية السورية أو التشظي والبقاء زمنًا في ساحة الحرب، فيما التقسيم ليس واردًا.
لا يستطيع البشر العيش من دون مثال أو هدف، شريطة أن يكون أحد ممكنات الواقع، لا مجرد خيار معلَّق في الرأس. يمكن أن يساعد الهدف أو المثال في تغيير العالم نحو الأفضل، ولكن من الضروري أن يُشتقّ أو يُستخلص من الواقع؛ فالاسترشاد بالمثال مهم كي لا يكون مصيرنا السير عميانًا في واقع لا يخدمنا، والقراءة العاقلة للواقع مهمة كي لا يأخذنا المثال نحو الوهم ومطاردة طواحين الهواء.
مثلما هناك واقعية سطحية، هناك أيضًا مثالية سلبية، إن جاز التعبير؛ “الذاتوية” أو “الإرادوية”، تلك التي تُخرج الواقع من رأسها، بدلًا من إخراج رأسها من الواقع، معتقدةً “أن أوهامها عن الواقع هي الواقع، وأن إرادتها هي التي تصنع التاريخ، هذه الإرادوية تنتج الاستبداد والفاشية”. في المقابل، الواقعية في حدّ ذاتها، لا تؤدي بالضرورة إلى فهم الواقع، ومن ثمّ اكتشاف مساراته، والتعامل الفاعل مع حقائقه، خصوصًا إن كانت واقعية جزئية أو سطحية أو أيديولوجية.
لا تتجلى العقلانية باتساق حركة الفكر والخيارات السياسية مع حركة الواقع وموازينه وممكناته فحسب، بل أيضًا مع المصالح والأهداف العقلانية للأفراد والجماعات. الواقع والمثال كلاهما ضروري لبناء رؤية عاقلة، أو للعقلانية، ولا يشكل التضاد أو التعارض أو التوتر أو التنابذ بين المثالي والواقعي، في المآل، مشكلة لكلِّ ذي بصيرة، لأن هذا هو جوهر الفلسفة والسياسة.. والحياة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت