شنّت قوات النظام السوري وفصائل فلسطينية متحالفة معه، تحت غطاء جوي روسي، في إبريل/ نيسان من عام 2018، حملةً عسكريةً على مخيّم اليرموك، وحيّ الحجر الأسود المجاور له، هدفها المعلن طرد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفي 21 مايو/ أيار من العام نفسه، وبعد 33 يوماً من المعارك، خرج عناصر التنظيم وعوائلهم من جنوب دمشق باتجاه بادية السويداء، بموجب اتفاق غامض برعاية روسية. دمّرت العمليات العسكرية نحو 80% من عمران مخيّم اليرموك جزئياً وكلياً، وأدت حينها إلى إزهاق أرواح مدنيين عديدين، يعتقد أن جثث بعضهم لا تزال تحت الأنقاض. ووفق مسحٍ أجرته وكالة الأمم المتحدة للتدريب والبحث (UNITAR)، في مارس/ آذار عام 2019، احتلّ المخيم (لا تتجاوز مساحته 2.11 كلم مربّع) المرتبة السابعة على سلّم المناطق الأكثر دماراً في سورية. لم يُسمح بعد لأهالي المخيّم بالعودة إلى منازلهم، بحجة عدم الانتهاء من ترحيل الأنقاض، وضرورة التأكد من سلامة المساكن من الألغام التي زرعها إرهابيو “داعش”، وتوفير الخدمات الأساسية لها، ولكن أُتيح لهم تفقد ممتلكاتهم داخله في زيارات سريعة بعد استصدار تصاريح أمنية، بينما توفر لعمليات “التعفيش” ما يكفي من الوقت، لنهب مقومات بنى المخيّم التحتية، ومحتويات منازله متاعاً وإكساءً.
تضاربت التصريحات بشأن مصير المخيّم والخطط لإعادة تأهيله، وسط انتظار نحو 160 ألفاً من لاجئيه الفلسطينيين المسجلين لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لمعرفة مصير مخيّمهم وممتلكاتهم. ومع صمت الجهات الرسمية السورية، بشّرت قيادات فلسطينية رسميّة أبناء مخيّم اليرموك، في عدة مناسبات، بقرب الإعمار والعودة، ونفت وجود أي مخططاتٍ تنظيميّةٍ قد تطوي الحالة الجغرافيّة والديموغرافيّة. وبعد إعلان “أونروا” أنها تنتظر قرار الحكومة السورية حول إعمار مخيّم اليرموك، وما إن كانت الحكومة ستسمح لساكنيه بالعودة إليه أو لا، اضطر نائب وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في ديسمبر/ كانون الأول 2018، إلى أن يعلن أن الحكومة السورية لا تمانع عودة الفلسطينيين إلى المخيّم، وأن لديها خطة لتنظيم عودتهم (لم يحدّد سقفها الزمني). مع عملية غير مستدامة لإزالة الركام من شوارع المخيم وأزقته، تسرّب عدد قليل من الأهالي إلى منازلهم في بعض مناطق المخيم الأقل تضرّراً، واكبت ذلك فعّاليات متفرقة، قامت بها جهات سورية وفلسطينية موالية، حرصت عدسات كاميرا الإعلام الرسمي على استثمارها، بوصفها انتصاراً لإرادة الحياة على إرهاب “داعش”.
تعاظمت مخاوف سكان المخيّم المهجرين بعد صدور “القانون رقم 10” في 4 إبريل/ نيسان من عام 2018 (جاء تعديلاً للمرسوم 66 الصادر عام 2012)، مستهدفاً إعادة تنظيم مناطق المخالفات العشوائيّة في نطاق محافظة دمشق. حاولت الفصائل الفلسطينية ومسؤولون فلسطينيون، مجدداً، طمأنة الأهالي، مردّدين أن القيادات السياسية والأمنية السورية أكّدت لهم أنّ مخيّم اليرموك لن يدخل في إطار إعادة التنظيم إلى محافظة دمشق، وأنه سيُعاد تأهيله وإعادة سكّانه ضمن فترة وجيزة. لكن جلسة لمجلس الوزراء السوري، مطلع يوليو/ تموز 2018، كذّبت تصريحات الفصائل وجهات رسمية سورية، حين خلصت إلى تكليف وزارة الأشغال العامة والإسكان إنجاز مخططات تنظيمية جديدة لمناطق جوبر وبرزة والقابون ومخيّم اليرموك، ضمن خطّة الحكومة لإعادة إحياء المناطق التي تحررت من “الإرهاب”، وفق بيان رسمي لرئاسة المجلس.
فشلت محاولات سابقة لإدراج المخيم ضمن النطاق التنظيمي لما يعرف بـ”محافظة دمشق الكبرى” بسبب الخصوصية الإدارية التي منحها للمخيّم قرار صادر عن مجلس الوزراء السوري عام 1964، أصبح معه المخيّم وحدةً إداريّة مستقلّة تتبع وزارة الإدارة المحليّة، تُديرها اللجنة المحليّة لمخيّم اليرموك التي يترأسها فلسطيني معيّن من الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب، بالتشارك مع القيادة القُطريّة لحزب البعث العربي الاشتراكي (التنظيم الفلسطيني)، بالإضافة إلى مجلس بلدي من شخصيّات من المخيّم. ولإزالة العراقيل الإدارية والقانونية التي تحول دون إدراج المخيّم وفق مخططات محافظة دمشق التنظيمية، أصدر مجلس الوزراء السوري، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، قراراً يقضي بأن تحلّ محافظة دمشق محل اللجنة المحلية لمخيم اليرموك، بما لها من حقوق وعليها من واجبات، وأن يوضع العاملون في اللجنة القائمون على رأس عملهم تحت تصرّف المحافظة. والحجة هنا أن الإعداد لمرحلة إعادة إعمار المخيّم، وما تحتاجها من إمكانات غير متوافرة لدى اللجنة المحليّة لمخيّم اليرموك. فعلياً، شكّل القرار انقلاباً على قرار عام 1964، تمهيداً لوضع المخيّم في تصرّف المحافظة، وتحت الظل الثقيل للقانون رقم 10، ما يعني إزالة المخيّم باعتباره منطقة مخالفات، وإحداث منطقة تنظيمية جديدة.
وفي سبتمبر/ أيلول 2019، كشف عضو المكتب التنفيذي لقطاع الخدمات والمرافق، ورئيس لجنة استلام منطقة اليرموك، سمير جزائرلي، عن تقويم المخطط التنظيمي لمخيّم اليرموك، مبيناً أن الجزء القديم من المخيّم (بين شارعي اليرموك وفلسطين، من مركز حلوة زيدان إلى منطقة مستوصف محمد الخامس القديم التابع لـ”أونروا”) لن ينطبق عليه القانون رقم 10، ما يمنع اعتباره منطقة إعادة إعمار، لأن الأرض، من الناحية القانونية، مِلك لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين، والمواطن فيها لا يمتلك سوى البناء فقط. أما العقارات التي بنيت في المخيّم بشكل مخالف، وفي حال تهدمها، لن يُسمح ببنائها بشكل مخالف، وسيطبق عليها التنظيم. أما رئيس مجلس الوزراء السابق، عماد خميس، فوضع حدّاً لجدل مستمر منذ اليوم الأول لخروج “داعش” من المخيّم، تلاطمت في بحره أدوات النفي والإثبات بشأن مخططات تنظيمية تنهي حالته مخيماً، حين أعلن في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019، أن المخطط التنظيمي لمنطقتي اليرموك والقابون سيعلن عنهما مطلع يناير/ كانون الثاني عام 2020. ومع مضيّ الموعد المحدّد، بقيت ملامح هذا المخطط مبهمة، لتتكاثف الصورة، وتتضح معالمها أواخر الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، حين وافق مجلس المحافظة، بعد جلسة استثنائية، على إعلان المخطط التنظيمي التفصيلي رقم 105 لمنطقتي القابون واليرموك، وعلى طرح تلك المخططات على المواطنين مدّة 30 يوماً، لإثبات ملكيتهم وتقديم اعتراضاتهم. وقُسّمت مساحة المخيّم، وفق المخطط التنظيمي، إلى ثلاث مناطق، تدرّج تصنيفها بحسب درجة الأضرار (عالية الضرر، متوسطة الضرر، خفيفة الضرر)، على أن تجري إعادة تنظيم شاملة وجذريّة للمنطقة “عالية الضرر”، التي تشمل أحياء وشوارع مركزيّة وأكثر اكتظاظاً، على أن تتاح عودة أهالي المناطق الأقل ضرراً، والبالغة نسبتهم 40% من مجموع سكّان المخيم. وبذلك يترك المخطط التنظيمي مصير ممتلكات 60% من سكّان المخيّم عرضةً للاستملاك من المحافظة، وتعويض من يستطيع إثبات ملكيته بمبالغ زهيدة، من دون أي تعويضات للمخالفين.
كشف الإعلان عن المخطط التنظيمي مسؤولية الفصائل الفلسطينية عن بيع الأوهام بالجملة والمفرّق للاجئين الفلسطينيين، وعن تبعيتها وحجمها المتواضع دمية في المعادلة السياسية السورية. والمخطط في حال تنفيذه سيترك آثاراً سلبية على قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقّهم في العودة، ابتداءً بتفاقم أوضاعهم الاقتصادية، بوصفهم الشريحة الأكثر تضرّراً في الانهيارات المتلاحقة للاقتصاد السوري (أكثر من 90% من أسرهم تعيش في فقر مطلق)، مروراً بتقويض رمزية المخيم، باعتباره شاهداً على النكبة الأولى، ومسحه عن خريطة اللجوء الفلسطيني، ليعاد تعريفه حيّاً من أحياء دمشق. أما النهاية، فباتت مرتبطة بمستقبل النظام السياسي القائم في سورية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت