“جهاديو” اليوم ليسوا أعداء أميركا
سيطرة حركة “طالبان” على أفغانستان بالكامل، أعادت مشاهد من دخولهم كابول في تسعينات القرن الماضي، واحتضانها تنظيم “القاعدة” حينها، والذي ركز حينها على شن عمليات ضد الولايات المتحدة، وصولاً الى اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001. لكن المقارنة هنا بفارق أكثر من 20 عاماً، ليست في محلها لأسباب عديدة.
أولاً، الولايات المتحدة تنسحب، ليس من أفغانستان فحسب، بل من العراق وربما سوريا لاحقاً. حتى قواعدها العسكرية في الخليج ينخفض عددها بشكل متواصل.
في تسعينات القرن الماضي، خاضت الولايات المتحدة حرباً ضد العراق لتحرير الكويت، وواصلت دعمها إسرائيل لقمع انتفاضتين فلسطينيين. مع انتشار شبكات التلفزة العابرة للحدود في العالمين العربي والإسلامي حينها، راكم سكان المنطقة وعياً معادياً للولايات المتحدة، بصفتها دولة تحتل مدناً إسلامية مقدسة، وتُبقي أنظمة فاسدة على قيد الحياة، وتدعم الاحتلال الإسرائيلي بشكل مطلق.
عام 2021 مختلف كثيراً. المزاج الإسلامي لم يعد معادياً للولايات المتحدة بالقدر ذاته. الولايات المتحدة تترك المنطقة، ولم تعد ترى فيها مصالح استراتيجية نتيجة تبدل حساباتها المرتبطة بالطاقة، نتيجة مزيج من الاعتماد المتزايد على الوسائل البديلة، أو تنمية القدرة على انتاج النفط محلياً دون الحاجة للخارج. وواشنطن انسحبت أيضاً من أفغانستان، وسلمت بهزيمتها أمام حركة “طالبان”، في ظل تفاهم مع الأخيرة حيال استضافة تنظيم “القاعدة” وأي حركة أو نشاط معادٍ للمصالح الأميركية.
إذن، أين المزاج الجهادي اليوم؟ بغض النظر عن تفاهم ايران مع حركة “طالبان”، الهمّ الإسلامي أو “الجهادي” الأول هو التمادي الإيراني في المنطقة، وإعادة “التوازن” للعلاقة بين الغالبية السنية والأقلية الشيعية. ذاك أن حرب العراق التي حرّضت على الولايات المتحدة، كونها المعتدي والمرتكب، تحولت إلى مركز للتحريض على الوجود الإيراني والميليشيات الموالية لها. وكذلك الحرب السورية أنتجت مواداً كثيرة للإسلاميين للتحريض ضد إيران ونفوذها “المتمادي” في المنطقة، في مقابل القليل عن التدخل الأميركي المحدود هناك. غالباً، بات في الفضاء الإسلامي عقد كامل من الزمن مملوء بالأحداث والمظلوميات في مواجهة القوى الشيعية بقيادة ايران.
هل احتك اسلاميو الشمال السوري مع روسيا أكثر أم مع ضربات جوية محدودة للولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية؟ طبعاً، هذا الكلام لا يعني أن العداء مع الولايات المتحدة تلاشى، لكن باتت هناك أولويات أخرى أيضاً، تتمثل بإيران وروسيا وأيضاً الصين. بيد أن المقاتلين التركستان (الأويغور) المنخرطين في الحزب الإسلامي التركستاني، خاضوا حرباً طويلة لسنوات في سوريا، لمصلحة الإسلاميين المشرقيين والعرب، على مبدأ “تُسددون لاحقاً”. واليوم، بعد عودة “طالبان”، يتوقع جهاديو “التركستاني” انخراطاً ما في المعركة بمواجهة الصين وحلفائها، في حين سيعود شيشان سوريا، أملاً بالقتال ضد الروس عبر الحدود.
لا يعني ذلك حتماً أن “طالبان” ستتبنى كل هذا المجهود الحربي، مع أكلافه الباهظة. هذا ليس أمراً محسوماً. إلا أن سيطرة الحركة اليوم، ليست مماثلة لما شهدناه سابقاً، لجهة تداعياتها على أمن أوروبا والولايات المتحدة. بل الأرجح أن عالم الجهاديين اليوم سيُواكب أكثر التغيرات في توازنات المنطقة حيث الدور الخارجي بات مشتركاً بين روسيا وتركيا وايران والصين.
من هذا المنطلق أيضاً بإمكاننا رؤية ارتياح الولايات المتحدة لقرار الانسحاب من أفغانستان، وأيضاً للاتفاق مع “طالبان”، أبعد من مجرد إيمان بالتزام الحركة ببنوده، إما لخشيتها من العواقب أو لحسابات إدارة الدولة. وهذا لا يعني شيئاً. تعي واشنطن بأنها لم تعد منذ العام 2009، لاعباً وحيداً في صلب أحداث المنطقة، يُلام على كل أخطائها. الحروب المتواصلة وخيبات الثورات العربية ونزاعاتها، أنتجت عالماً جديداً من المظالم والحسابات السياسية، بإمكان الولايات المتحدة إدارة “حصتها” فيه عن بعد، بالطائرات من دون طيار أو بالتعاون مع الحلفاء. لكن الوقت حان أيضاً بهذه الحسابات لدور صيني أكبر وأكثر جرأة واحتمالاً للأخطاء، ولهذا حديث وحسابات أخرى بالتأكيد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت