انطلق الربيع العربي وحمل في شعارات مطلقي شراراته الأولى، وعوداً وآمالاً بتأسيس حكم رشيد، يعبّر عن أحلام أبناء الوطن، ويشركهم ويضع حلّ همومهم على قائمة أجنداته، وينصف المظلوم من ظالمه، ويرعى الضعيف حتى يقوى، ويقيم القسط والعدل بين الناس.
صدحت حناجر الثوار من تونس إلى اليمن مروراً بليبيا ومصر وسورية بأهازيج وأبيات، مجّدت قيماً إنسانيةً مشتركة، لا يختلف شعب على صلاحها وحق الأفراد بها.
لم تردد جموع المتظاهرين كلمات الحرية والعدالة والأخوة والكرامة لاستعطاف العالم وجلب الدعم الدولي، ولكن كانت بلا شك تفترض دعم الشعوب الحرة لنضالهم المشروع بنيل استحقاقهم الذي طال.
نسي المتظاهرون أنانية الشعوب وتبريرها لاحتلال جيوشهم للضعفاء، نسوا تفضيل قادة العالم “المتحضر” لشراكة الدكتاتوريين “الصالحين”، نسوا سلطان المال المتدفق على حقوق الإنسان. توقفت ذاكرتهم الجمعية عند عبارة “على الدكتاتور الشرير الرحيل”، ومسحت كل السجل السابق وكأنه سراب.
لم تصمد غفلتنا طويلاً أمام مرارة الواقع وبرجماتية العالم، انقلاب في مصر، وتأجيج حروب داخلية في اليمن وليبيا، وتغاضي أعمى عن جرائم الأسد في سورية. انقلب الأمل بتدخل “العالم المتحضر” إلى خيبة مريرة، واستبدلت مشاعر “الأخوة العالمية” بمشاعر الغضب، ولكن، حمداً لله، تحسّنت ذاكرتنا الجمعية وقويت وأسست لواقعية مشوّهة بددت ما نحمله من بقايا قيم لم تنجح الأنظمة بسلبها سابقاً.
كان يعاب علينا كشعوب، عاطفتنا في الدفاع عن حقوقنا والمطالبة باستحقاقاتنا السياسية والثقافية والمعاشية، وكان يخرج علينا كل حين “مفكّر” سياسي محنّك يبّشر بضرورة اعتناق منطق المصالح في خطاب قوى العالم.
نعم أيّتها الشعوب الطيبة الساذجة، دعوا الأخلاق جانباً فالسياسة فن لا يتقنه إلّا تاجر حذق، واتركوا القيم ليوم ترجع فيه حقوقكم لكم.
كان لهذه الخطابات والمقالات وقع مؤثر على مسامع الناس، بدت وكأنها الحل والمخلّص أمام دبابات وطيارات وقنابل مجرمي الأنظمة الاستبدادية، فخلعنا ثوب المبادئ واستبدلناه بثوب المنافع والارتهان.
كنّا في سابق عهدنا، أيّام مراهقتنا الطهرانية، نعيب برجماتية الساسة، ونكفر جهراً وعلناً بميكافيلية “الغاية تبرر الوسيلة”، فبتنا اليوم بنادق في معارك جانبية وأحجار شطرنج يتم التضحية بها عند فراغ نفعها.
ولعل أسوء ما في الأمر إيجاد مبررات الإنسياق الأعمى من العدم، واكسائها ثوباً أيديولوجياً لتخفيف وطأة خطايانا على ضمائرنا المتأزمة. ولعلنا لن نحس بفداحة الجريمة المرتكبة بحق أنفسنا إلا بعد أن يقع الفأس موقع الرأس.
إحدى الحقائق التي جددت إيماني بها أنه لا يمكننا أن نحقق لأنفسنا أي رفعة من خلال تحقيق مصالح بعضنا دون غيرنا، وأننا كشعوب لا يمكن أن نتعايش ونحقق أهدافنا المشتركة وهي عديدة دون أن نأسس لندّية مبنيةً على الاحترام المتبادل والاعتراف الكامل بالآخر.
وتعيدنا هذه الحقيقة المسلّمة إلى المربع الأول، هل يمكن أن نصل إلى غاياتنا النبيلة دون الارتكاز على قاعدة أخلاقية صلبة؟ مجموعة من المبادئ المسلّمة وكل ما دونها وما يتعارض معها مرفوض؟ شخصياً على الأقل لا أجد عن ذلك تبديلاً. وإن كنّا نسعى لسؤدد الحق في بلادنا، فالمعركة وميدانها على أرضنا وخصمنا من سلبها منّا، وأي حيد عنها تشويش يؤجل النصر والظفر، وطريقهما صعب ومحفوف بالمخاطر ولا طاقة لنا على التضحية لمن يعجز عن مبادلتنا نفس الأفعال.
كشف الربيع العربي عن خطايا التبعية، وما بين المثالية الزائفة والعمالة المدمّرة حل وسط يرشّد البرجماتية الجشعة ويحافظ على مبادئنا المسلّم بها. فمقتضى البرجماتية البصيرة حساب ما يحتاجه النصر من عدة، والتعّرف على مواقع الضعف والقوة عند الخصم. وهدف البرجماتية العادلة صيانة حقوق البشر ووضعها فوق كل اعتبار لضمان إخلاصهم في مواجهة العدو. وأداة البرجماتية الفطنة اتقان فن تقديم الممكن على المستحيل وتسخير الموارد لتحقيق العائد الأكبر على استثمارها. وأما سنام البرجماتية الرشيدة فهو خدمة الناس والعباد، لأن بصلاحهم صلاح البلاد، وبرضاهم تشحذ الهمم، وبمشاركتهم يكتمل العمران.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت