نظرياً، يبدو قرار رفع سقف الأوراق النقدية الأجنبية المسموح بإدخالها عبر المعابر الحدودية إلى سوريا، إجراءً طبيعياً، يحاكي قوانين شبيهة في كثيرٍ من دول العالم. بل وأكثر من ذلك، يبدو وكأنه تصحيح لمسارٍ سابقٍ غير مفهوم، في التعامل مع المصادر الخارجية للقطع الأجنبي التي تحتاج إليها السوق السورية بشدة. ففي دول مجاورة، من قبيل لبنان أو مصر مثلاً، لا توجد سقوف للمبالغ التي يمكن إدخالها إلى البلاد. بل على العكس، هي مرحب بها بشدة، شريطة التصريح عنها، إن تجاوزت الحدود المتعارف عليها (ما بين 10 إلى 15 ألف دولار أمريكي). وهذا التصريح يكتسي حلّة إجرائية روتينية، لأغراض اقتصادية – إحصائية. وفي بعض الحالات، كما في لبنان، يُطلب في التصريح توضيح مصدر الأموال. لكن، نص القرار الأخير الصادر عن مجلس النقد والتسليف في سوريا، وتعليقات مسؤولين رسميين على النسخة السابقة له، لا توحي بأن التصريح المطلوب يتضمن أي بيانات حول مصدر الأموال. المطلوب فقط، تحديد قيمة الأموال التي سيتم إدخالها. والتي بات سقفها نصف مليون دولار أمريكي، بعد أن كان بحدود 100 ألف دولار أمريكي منذ العام 2015.
ونظرياً أيضاً، يمكن فهم هدف القرار بأنه استكمالٌ لمساعي جذب القطع الأجنبي التي تكثفت من جانب السلطات النقدية السورية منذ تغيير رأس هرمها –حازم قرفول حاكم المركزي- في منتصف نيسان/أبريل الفائت. وبناء على ذلك، يمكن الرهان على أن الفئة الرئيسية المستفيدة من هذا القرار، هي فئة المُصدّرين الذين يريدون جلب الحصيلة المالية المتأتية من بيع بضائعهم في أسواق خارجية، إلى الداخل السوري، والذين يعانون من تضييق العقوبات الغربية على قنوات التحويل المصرفي الرسمي إلى سوريا. ويمكن الرهان، نظرياً كذلك، على أن القرار سيؤدي إلى تحسن في سعر صرف الليرة السورية، باعتباره سيجذب دولاراً من الخارج إلى السوق المحلية.
كل ما سبق، يصح نظرياً أثناء قراءة القرار المشار إليه. وهو ما أسهبت في شرحه أقلام خبراء محليين في الإعلام الموالي. لكن واقعياً، تتجلى جملة نقاط تجعل القرار مفصّلاً على مقاس شريحة أخرى، غير المصدّرين. ويخدم أهدافاً بعيدة لا تتعلق بجذب القطع الأجنبي وتحسين صرف الليرة.
إحدى تلك النقاط، تتعلق بصعوبة نقل مبلغ بقيمة 500 ألف دولار “كاش”، عبر الحدود، وبصورة رسمية، مع الإفصاح عنه. ذلك أن معظم دول العالم، ومنها دول الجوار السوري، تضع قيوداً صعبة على نقل مبالغ كبيرة من الأموال – كاش- عبر الحدود، برفقة المسافرين. وفي بعض تلك الدول، يُمنع ذلك منعاً باتاً، إلا لمبالغ محدودة لغايات السفر، لا أكثر.
نقطة أخرى، تتعلق بغياب الثقة بالأجهزة الأمنية المسؤولة عن تطبيق هذا القرار، أو التفاعل معه، سواء على المنفذ الحدودي السوري، أو عبر الحواجز الأمنية والعسكرية التي تترقب القادمين من المعابر الحدودية. ويمكن استقراء حالة غياب الثقة تلك، بصورة جلية، في تعليقات السوريين على نص القرار، وسخريتهم منه، على صفحات محلية موالية. متسائلين عن ذاك الذي سيخاطر بمبلغ نصف مليون دولار أمريكي، ليعبر به عبر جمارك الحدود وحواجز النظام، المعروفة ببلطجة عناصرها.
لكن النقطة الأخيرة –غياب الثقة بأجهزة النظام- لا تفسّر سبب صدور هذا القرار والغاية الخفية منه، بقدر ما تفسّر سبب فشل النظام في تحقيق الأهداف المعلنة له. وكي نفهم ما بين سطور القرار، علينا أن نلجأ إلى توصيف صدر عن مجموعة العمل المالي الدولية – فاتف- في تقرير لها عام 2015. والتي تقول فيه، إن النقل المادي للنقد عبر الحدود الدولية يعد واحداً من أقدم الصور وأبسطها لغسل الأموال. وتضيف في موضعٍ آخر من التقرير نفسه، أن العديد من الدول أبلغت عن استخدام هذا الأسلوب من قبل منظمات الإتجار بالمخدرات.
فاتف، وهي هيئة دولية تعمل على وضع وتعزيز سياسات حماية النظام المالي العالمي من شبهات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، كان قد سبق وصنفت سوريا، على أنها دولة تعاني من “مواطن قصور استراتيجية”، في سياستها تجاه هذا الملف – غسيل الأموال-.
وضمن تقريرها المشار إليه أعلاه، تقول فاتف، إن المجرمين يستغلون آليات أنظمة الإقرار بالنقد كوسيلة لإضافة واجهة شرعية لأموالهم. إذ يُعتبر غياب توضيح مصدر الأموال، عقبة كبيرة عند محاولة إدخال الأموال إلى أي بنك أو مؤسسة مالية. لكن، حينما يقدم حامل الأموال لموظف البنك، التصريح المُعتمد في المعبر الحدودي، والذي بموجبه دخل بالأموال إلى البلاد، يصبح موظف البنك في حلٍ من أية شكوك تجاه مصدر الأموال، فهو يملك وثيقة رسمية توضح أن صاحب الأموال دخل بها بصورة علنية، وأفصح عنها للسلطات. بمعنى آخر، يكون التصريح في المعبر الحدودي، صك “شرعنة” للأموال، رغم أن مصدرها بقي مجهولاً.
وبالعودة إلى نص قرار مجلس النقد والتسليف في سوريا، نجد أنه يشير بشكل جلّي إلى أهمية الاحتفاظ بنسخة عن التصريح المقدم عن المبلغ أصولاً، وفق النماذج المعتمدة من هيئة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب التابعة لحكومة النظام. تلك النسخة من التصريح هي التي تمنح الأموال، إبراءً قانونياً، أمام أية جهة أخرى ستتساءل عن مصدرها، في الداخل السوري. وتحديداً، داخل المؤسسات البنكية العاملة بسوريا.
فهل أخطأ جمهور المعلقين الساخرين الذين قالوا إن القرار مفصّلٌ على مقاس تجار المخدرات على الحدود اللبنانية السورية!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت