ثلاث محطات شهدها الشطر السوري من حياة روبرت ستيفن فورد، آخر سفير أمريكي لدى النظام السوري: وصوله إلى دمشق، في مثل هذه الأيام ولكن قبل 10 سنوات، بعد تسميته من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما؛ وخطوته، غير المألوفة، تموز (يوليو) 2011، في الذهاب إلى مدينة حماة؛ ثمّ استقالته/ إحالته على التقاعد، آذار (مارس) 2014، بعد أن شغل منصب المبعوث الأمريكي الخاص لدى المعارضة السورية.
ولا تُستعاد هذه المحطات، هنا، بسبب الأدوار التي لعبها فورد خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة، ثمّ بعدئذ في تحضيرات مؤتمر جنيف والصلات مع مؤسسات المعارضة السورية الخارجية، فحسب؛ بل كذلك لأنّ مسارات عمل فورد، ومواقفه واجتهاداته طوال أربع سنوات ونيف، تشكل أيضاً سردية بليغة حول سياسات أوباما بصدد الملفّ السوري، ثمّ تتماتها في ما أعقب من خيارات اقترحتها وزارة الخارجية يومذاك، في ولاية هيلاري كلنتون وجون كيري على حدّ سواء. كذلك فإنّ تسمية فورد كانت نقلة نوعية بالقياس إلى خمس سنوات من الجفاء بين واشنطن والنظام السوري، تُوّجت عملياً بسحب السفيرة مارغريت سكوبي، سنة 2005، على خلفية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
وكان الأمر رقم 13338، الذي وقّعه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في أيار (مايو) 2004، وقضى بوضع «قانون محاسبة سورية» قيد التنفيذ، هو ناظم العلاقات بين واشنطن والنظام السوري؛ قبل أن يقرر أوباما تغيير المعادلة، على أعتاب التفاوض مع طهران حول برنامجها النووي. وفي كلّ حال، كان «حصار» النظام السوري شكلانياً في نهاية المطاف، لا يتجاوز حظر تصدير الذخائر والموادّ ذات الاستخدام المزدوج، ومنع شركة الطيران السورية من الهبوط أو الإقلاع في المطارات الأمريكية، وإنهاء التعاملات بين وزارة الخزانة الأمريكية والمصرف المركزي السوري. في المقابل، تكفل عدد من الساسة والنوّاب الأمريكيين بتفريغ هذا «الحصار» من مضامينه العملية؛ كلّما اقتضت المصالح العامّة (للولايات المتحدة، ولدولة الاحتلال الإسرائيلي)؛ أو المصالح الشخصية والحزبية (السناتور الديمقراطي بيل نلسون، زميله الجمهوري أرلن سبكتر، المرشّح الديمقراطي للرئاسة جون كيري، نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، وسواهم).
وعلى خلفية كهذه كانت المحطة الأولى، قبيل وصول فورد إلى دمشق، قد اقترنت بخلاف بين البيت الأبيض الذي سمّى فورد سفيراً، ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ التي علّقت التثبيت؛ مما دفع أوباما إلى استغلال عطلة المجلس، وتعيين فورد على أساس النظام المؤقت. لكنّ فورد، بالاعتماد على سجلّ حافل في العمل الدبلوماسي على نطاق الشرق الأوسط وأفريقيا، في تركيا والجزائر والبحرين والكاميرون والعراق ومصر، وكذلك بسبب اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا ووقوع لجنة العلاقات الخارجية تحت ضغط الحاجة الماسة والأمر الواقع؛ نال التثبيت أخيراً، مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2011، ليس من دون مفارقة صارخة تمثلت في أنه غادر دمشق بعد أيام معدودة، لأسباب تتصل بتعرّض حياته للخطر، كما أوضحت الخارجية الأمريكية.
والحال أنّ المحطة السورية الثانية في حياة فورد، أي زيارة مدينة حماة وسلوك السفير العام مع الشارع الشعبي السوري والمعارضة، كانت حاسمة في إعلاء شأنه أمام أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، خاصة المعترضين على تعيينه وفي طليعتهم السناتور توم كوبرن. ورغم أنّ فورد لم يطلب من خارجية النظام منحه الإذن بمغادرة دمشق إلى حماة، إلا أنه أعلم السلطات بهذه الرغبة، وأنه سيصطحب معه زميله السفير الفرنسي إريك شفالييه، فأمّنت أجهزة النظام مرافقة للموكب غير مباشرة؛ ليس حفاظاً على حياة السفيرين، أغلب الظنّ، بل لرصد تحركاتهما واتصالاتهما.
ما لم يكن متفقاً عليه هو مبيت السفير في المدينة حتى يوم الجمعة التالي، أي «جمعة لا حوار» دون سواها، حيث كان مقرراً أن تشهد ساحة العاصي مشاركة مئات الآلاف من أبناء حماة وريفها. ولعلّ غضبة النظام، ومثلها ابتهاج الخارجية الأمريكية، انبثقتا هذا التفصيل تحديداً، أي المبيت في فندق يطلّ على الساحة، وتثبيت شهادة عيان دبلوماسية عالية المستوى على هذه الجمعة بالذات؛ إلى جانب رمزية أخرى خاصة صنعها موقع حماة، سواء في تاريخ استبداد آل الأسد، أو في صمت واشنطن على مجزرة 1982 في المدينة. يُضاف إلى هذا، لجهة الغضبة والابتهاج معاً، أنّ فورد كان قد قصد مجلس عزاء الشهيد غياث مطر، بصحبة سفراء فرنسا وألمانيا واليابان والدانمرك؛ وأنه اعتاد الانخراط العلني في حوارات مع السوريين على تويتر، كانت صريحة وغير مسبوقة بالنسبة إلى أي دبلوماسي يمثل قوّة عظمى؛ كما قام، علانية أيضاً، بزيارة المحامي المعارض حسن عبد العظيم في مكتبه، وتعرّض موكبه للرشق بالحجارة من بعض الشبيحة.
المحطة الثالثة، أي انتقال فورد إلى موقع المبعوث الأمريكي لدى مؤسسات المعارضة الخارجية، ثمّ تقاعده واستقالته؛ سوف تجيب عن كثير من الأسئلة التي أثارها سلوك فورد خلال الأشهر القليلة التي قضاها كسفير في دمشق، وعلى رأسها السؤال الأهمّ: هل كانت أفعاله تلك مرآة صادقة عكست تبدلاً جوهرياً في موقف إدارة أوباما من الانتفاضة السورية؟ أم كانت واجهة مسرحية، دراماتيكية صاخبة كما تقتضي خشبة المسرح، تخفي صمت الإدارة عن جرائم النظام، واستمرار السياسات الأمريكية ذاتها تجاه آل الأسد و«الحركة التصحيحية» عموماً؛ والتي ستبلغ ذروة افتضاحها في حكاية «الخطّ الأحمر» الكيميائي الذي رسمه أوباما، ثمّ أقدم شخصياً على مسحه بقدميه؟
وحين ذهب فورد إلى حماة كان يدرك جيداً أنه يسير تحت سقف تصريح أوباما (أنّ الأسد «فقد شرعيته. وقد ضيّع الفرصة تلو الفرصة لتقديم جدول أعمال حقيقي للإصلاح»)، وتصريح الوزيرة كلنتون (أنّ الأسد «فقد الشرعية لفشله في تحقيق وعود بإجراء إصلاحات»). وكان على وعي، أيضاً، بأنّ الإدارة تنتهج الدعم اللفظي لمطامح الشعب السوري، ولكنها تراهن ضمناً على إمكانية بقاء نظام «الحركة التصحيحية»، وإجراء «إصلاحات» داخلية تجميلية هنا وهناك. باختصار، كانت سياسة البيت الأبيض تتطلب شحنة من الدراما لإقناع الرأي العام بأنّ واشنطن لم تعد صديقة الطغاة والطغيان، وكانت تقتضي اللجوء إلى بعض السلوك المسرحي، في مخاطبة الشارع الشعبي السوري.
ولهذا فإنّ فورد كشف النقاب، ولكن بعد استقالته وتقاعده فقط، عن حقيقة أنه طالب بتسليح المعارضة على نحو يعدّل موازين القوى العسكرية، قبل سنوات سبقت التدخل العسكري الروسي الذي انتشل النظام من حافة الهاوية. كذلك تكشفت طبائع علاقته مع أطراف وقيادات في المعارضة السورية، الاسطنبولية على وجه التحديد، انتحلت صفة تمثيل الإرادة الشعبية السورية، ورهنت أرادتها للدفّة الأمريكية التي لم تكن أصلاً تتقصد الملاحة بأولئك المعارضين، بقدر ما واظبت على تحريكهم كدمى وأدوات.
لم يكن غريباً، والحال هذه، أن يخلف فورد في موقع المبعوث الأمريكي رجل مثل دانييل روبنستين؛ الآتي إلى سوريا من ملفّ المفاوضات الفلسطينية ــ الإسرائيلية، حيث كان سجلّه حافلاً بالانحياز إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، وليس البتة لأنه يهودي الديانة؛ بل أساساً لأنه خبير «مستعرب»، خدم مع عسكر أمريكا في سيناء، وتولى مناصب دبلوماسية، وأخرى «بحثية»، أي: استخباراتية، في عمّان وبغداد ودمشق وتونس والقدس وتل أبيب. وليس عجيباً، في نهاية المطاف، أنّ المنصب ذاته طار وتبخر، وبات روبنستين سفيراً للولايات المتحدة في تونس، بعد أن آلت المعارضة السورية الاسطنبولية إلى ما آلت إليه من إدقاع وإفلاس.
عشر عجاف، إذن، هي السنوات التي انقضت منذ سفارة فورد وحتى اليوم؛ وليس هذا بكثير، أو عجيب، على سفارات أمريكا وإدراتها، قاطبة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت