انتهى شهر أيار من دون إعلان إدارة بايدن عن جديد في ما يخص سياسة إدارته في سوريا، وكان مقربون من دوائر صنع القرار في واشنطن قد توقعوا أن يشهد الشهر الانتهاءَ من بلورة السياسة الأمريكية مع تعيين مندوب أمريكي خاص منسجم معها. اختار بايدن مبعوثيه في العديد من الملفات الأخرى، كالملف النووي الكوري المتوقف منذ أيام ترامب ولا يُتوقع تحريكه قريباً، وفي منطقتنا اختار مبعوثه إلى اليمن بعد أسبوعين فقط من توليه منصبه، بينما اضطر النواب الديمقراطيون والجمهوريون مرتين إلى اتخاذ “توصية” لتذكيره بسوريا، وبقيت التوصيتان في أدراج مكتبه.
آنذاك وصف مسؤولو الإدارة تعيين المبعوث إلى اليمن بأنه “خطوة جديدة، لكنها شاقة، لإنهاء صراع استمر قرابة ست سنوات وحوّل البلاد إلى أسوأ أزمة إنسانية في العالم”. التوصيف الأخير لا جدال فيه، إذا عدّلنا في صياغته ليصبح اليمن واحداً من أسوأ أزمتين إنسانيتين في العالم، بالطبع إلى جانب سوريا. لكن، كما نعلم، لا تطلق الإدارات الأمريكية توصيفاتها الإنسانية توخياً للحقيقة، بل بما يتماشى مع نشاطها الديبلوماسي أو العسكري ويبررهما، أي أن اليمن صار في دائرة الاهتمام الأمريكي، اليمن الذي كان مهملاً أكثر من سوريا أيام ترامب.
والنشاط المأمول هو ما دفع الأمم المتحدة إلى الترحيب فوراً بتعيين المبعوث الأمريكي، في حين سيُضطر مبعوث الأمم المتحدة الخاص بسوريا إلى استجداء الدعم والإرادة الدوليين مع كل جلسة إحاطة روتينية لمجلس الأمن، فهو مجرد موظف لا يمكنه التقدم في عمله مع غياب إرادة الفاعلين وعلى رأسهم واشنطن، ولا يستطيع من موقعه تسميتها كعاصمة لعدم الاكتراث المعلن بسوريا، ولا التململ من الخطابات والخطابات المضادة التي يتنصل بها كل طرف من مسؤولياته تجاه الكارثة السورية. كان ترامب أيضاً، جرياً على توجهاته المعادية للمنظمات الدولية، غير مكترث بنشاطات الأمم المتحدة الخاصة بسوريا، إلا أنه كان يعتمد سياسة نشطة عموماً، بصرف النظر عن رأينا بها وعن مزاجيته وتقلباته.
بالتأكيد لا توجد قاعدة في البيت الأبيض تقول: إما سوريا أو اليمن! قائمة السياسة الخارجية للقوة العظمى الأمريكية تتسع لاهتمامات قد تخطر في بالنا أو لا تخطر فيه، وسوريا موجودة فيها من دون أن تحظى بعنوان منفصل، وكذلك حال اليمن أيضاً. فالسياسة الأمريكية إزاء البلدين متصلة بعلاقة واشنطن بطهران، ومتصلة راهناً “وتقريباً خلال السنوات العشر الأخيرة” بالملف النووي الإيراني المهيمن بظله وظل الحرس الثوري الإيراني على البلدين.
من أثمان الاتفاق النووي التي دفعها أوباما إعطاءُ الضوء الأخضر لإيران وميليشياتها في سوريا، وأيضاً التغاضي عن استخدام السلاح الكيماوي ضد السوريين، لا لمرة وحيدة في آب2013 بل لعشرات المرات قبل وبعد صفقة الكيماوي المشينة والزائفة. استئناف مفاوضات النووي، وقبول إدارة بايدن بالعودة إلى التفاهمات القديمة ينطوي على ما لم يكن معلناً من قبل، ومنها التفاهمات الخاصة بسوريا، والعودة إلى ما يوصف بالانكفاء الأمريكي عن سوريا، وهو في الواقع ترجيح خفي لكفّة حلفاء بشار، وإن لم يصل الحال بعد إلى منحهم البد بأكمله.
لقد أتى بايدن إلى الرئاسة وفي مقدمة تطلعاته العودة إلى الاتفاق الذي انسحب منه سلفه، وتعيين مبعوث أمريكي مع الاهتمام بالتسوية في اليمن يعكس حرصه على التهدئة بين الرياض وطهران وإيجاد مناخ إقليمي مواتٍ للتقارب الأمريكي-الإيراني. بيت القصيد في الاهتمام باليمن طمأنة الرياض بأن واشنطن معنية بما يمس أمنها مباشرة، عبر البوابة اليمنية، لكنها غير معنية “كما كان الحال أيام ترامب” بالصراع الإقليمي الأوسع على النفوذ. بدعم التسوية في اليمن هناك دعوة للتعايش مجدداً مع النفوذ الإيراني الممثل بالحوثيين رغم انقلابهم على التسوية السابقة، وكان سلفه مدركاً لما سيحدث لذا سارع إلى وضع الحوثيين على لائحة الإرهاب الأمريكية، وحاول جعل مهمة بايدن أصعب بالاستخدام المفرط لسلاح العقوبات الاقتصادية، بما فيها لائحة عقوبات قيصر التي لم تطرأ عليها إضافة بعد مجيء بايدن.
في الشأن السوري لا حلفاء لواشنطن تضطر لمراعاتهم، وعلاقة إدارة بايدن بأردوغان متوترة أصلاً بسبب العديد من الملفات، أي أن إرضاء أنقرة “التي ترى سوريا من منظار هاجسها الكردي” لن يكون في أولوياته. على العموم من شبه المؤكد ألا ترقى سياسة بايدن لتلاقي تطلعات الإدارة الذاتية الكردية، ولن تلاقي حتى ما هو متوقع منها على أرضية تعاطف حزبه الديموقراطي مع الأكراد، وكان نواب الحزب قد انتقدوا مراراً سياسة ترامب التي رأوها منحازة لأنقرة على حساب الأكراد.
كاستفادة جانبية قد تأتي سياسة بايدن لصالح أنقرة بقدر ما تكون أسوأ للإدارة الذاتية، من ذلك مؤخراً سحب ترخيص شركة “دلتا كريسنت إنرجي” التي حصلت على موافقة إدارة ترامب للعمل في حقول النفط الخاضعة لسيطرة الإدارة. كان منح الشركة الترخيص فيه طمأنة للإدارة الذاتية لجهة بقاء القوات الأمريكية إلى أجل طويل، وأيضاً لجهة الحصول على إيرادات تقوي من سلطة الإدارة وتجعلها أكثر استقلالية في التفاصيل مما تكون عليه وهي تعتمد على المساعدات المالية الأمريكية. بتراجعها إزاء الإدارة الذاتية تدفع إدارة بايدن السلطة الكردية في اتجاه بشار وروسيا، وهذا خيار محبب لدى بعض الفاعلين ضمنها، وهو لا يزعج أنقرة التي تفضّله على بقاء الإدارة وسلطتها على حدودها. لا مفاجأة في أن بعض ما يرضي طهران وبشار في سوريا يرضي أنقرة أيضاً، تحديداً في الشق الكردي، لينال “الانكفاء الأمريكي” المدروس رضا القوى الفاعلة في سوريا باستثناء إسرائيل التي تطالب من جهتها بشريط أمني يفصل بينها وبين القوات والصواريخ الإيرانية في سوريا.
في غضون ذلك، تتحفنا إدارة بايدن ببعض التعليقات الخاصة بسوريا، ومنها اعتبار انتخابات بشار إهانةً للسوريين، وكأنما لا يكفيهم إحساسهم بالمهانة لتتبرع لهم القوة الأعظم بالتوضيح كأي متابع لا حيلة له. ربما، عندما يتضح مآل المفاوضات النووية الحالية، تعيّن إدارة بايدن مبعوثاً خاصاً بالملف السوري ليدلي بمثل هذه التصريحات، وتكون مهمته الأساسية إفهام المعارضة السورية أن إدارته لا ترى في سوريا أكثر من جزرة كان من المفيد حجزها أثناء التفاوض مع الطامعين فيها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت