مساء يوم الأحد، الأول من أيار 2011، أغلقت مريم الدفتر الذي تسجّل فيه كلام والدها، زعيم تنظيم القاعدة، بعد أن دوّنت مهمة الغد التي لن تأتي أبداً. فبعد ساعات ستقتحم قوات أميركية خاصة المجمع الذي توارى فيه المطلوب الأول في العالم، ولن تتمكن من قتله فقط، بل ستحمل معها في رحلة الإياب ثروة حقيقية من الوثائق الداخلية للتنظيم ومراسلاته المحذوفة/ الموجودة في كمبيوتر بن لادن الشخصي، وبعض الورقيات القليلة.
طيلة سنوات ستعمل المخابرات الأميركية وخبراء مراكز مكافحة الإرهاب على دراسة هذه الملفات، قبل أن تفرج عن بعضها على دفعات تحت اسم «وثائق أبوت آباد»، نسبة إلى المدينة الباكستانية التي لاقى فيها مخطِّط عملية 11 أيلول مصرعه. وفي حين اقتصرت الدفعات الأولى من هذه الوثائق على المراسلات تقريباً؛ فإن الدفعة الأخيرة لعام 2017 حوت عدداً هائلاً من الملفات المكتوبة والصور والصوتيات والأفلام، ومنها دفتر مريم الذي يصف نفسه، على صفحته الأولى، بأنه «مذكرات»، وربما كان التعريف الأدق له «المذاكرات»، لأنه يتضمن حوارات أبي عبد الله مع بعض أفراد أسرته عن «الثورات في العالم العربي»، التي كانت الحدث الأبرز في الشهرين الأخيرين من حياة زعيم التنظيم، اللذين يغطيهما هذا الكشكول الذي لم يُدرَس عربياً بشكل كاف.
منذ أيام كتبت نيللي لحود، الخبيرة في شؤون الجهاديين التي تعدّ كتاباً بالاعتماد على «وثائق أبوت آباد»، مقالاً عن هذه المذكرات في مجلة London Review of Books، جعل تناولها أيسر بوضعها في سياقها العام، لا سيما أنها تتجاوز مئتي صفحة مكتوبة بخط يد سريع كان يلاحق كلمات الوالد في هذه المسامرات العائلية الغريبة بموضوعاتها وجديتها، والتي كانت تعقد كل يوم تقريباً. كان بن لادن، المنعزل بسبب الاحتياطات الأمنية، قد اتخذ من أسرته مستشارين مباشرين، كما يتضح من هذه المذكرات التي يبرز فيها اسم ابنته سمية (19 عاماً وقتها)، وشقيقتها مدوّنة الجلسات مريم (21 عاماً وقتها)، وزوجة أبيهما خيرية صابر (أم حمزة)، وشقيقهما خالد (22 عاماً وقتها)، مرتبين حسب تسلسل التأثير الذي وصل إلى درجة اقتراح مريم «حلة جديدة للقاعدة وتغيير الإطار العام للتنظيم والهيكلة»، وتكليف الأب فريقه الأسري ذي الغالبية النسائية هذا بمشاركته في صياغة البيان الصوتي الذي كان على وشك تسجيله عن الربيع العربي.
في هذه الأمسيات، التي غالباً ما كانت تنتهي بأذان العشاء والصلاة، يبدو بن لادن متحمساً للثورات، يتابع أخبارها بدقة عبر القنوات التلفزيونية، ولا سيما «الجزيرة»، ويبني على مشاهداته تحليله للأوضاع في هذا البلد أو ذاك، دون مصادر معلومات خاصة.
تشغل أخبار ليبيا واليمن ومصر، على الترتيب، معظم صفحات الدفتر. وكان بن لادن يراهن على نجاح الثورات فيها لتنتقل العدوى إلى البلدان المجاورة. من ليبيا إلى بلدان المغرب العربي، ومن اليمن إلى دول الخليج التي سيكون سقوط أنظمتها عند ذلك مجرد «تحصيل حاصل»، بما فيها العرش السعودي الذي يرى أنه، والنظام السوري، من أواخر من سيتهاوى. مشدداً على أن «سقوط جميع الأنظمة مصلحة للأمة»، حتى عندما سألت سمية عن المصلحة في سقوط البحرين وأجاب أنه «يسهل استعادتها».
كانت رؤية الجهادي الأشهر للربيع العربي بسيطة. فقد سئمت الشعوب من استبداد حكامها، وصارت تطالبهم «لا نريد مكرمة، نريد كرامة». وفي حال سقوط هذه الأنظمة فالبديل حكماً هو الإسلاميون، كما كان الأمر يبدو في مصر مع صعود الإخوان المسلمين الذين لا يأخذ بن لادن موقفاً حاداً منهم في هذه الحال. وفي إحدى المرات القليلة التي تستطيع فيها الابنة جرّ أبيها من حديث الحاضر إلى الذكريات يقول إنه التزم، في أول نشأته، مع الإخوان، لكنه لم يتأثر بهم كثيراً «من الناحية العلمية» لأن «مناهجهم محدودة»، فضلاً عن أن «معرفتهم بالأمور العامة ضعيفة» وقتها، كما استنتج في أول خروج له في الجهاد، إلى تركيا عام 1976، عندما اضطر، بسبب ضعف خبرتهم، إلى الذهاب إلى سوريا ثم إلى مدينة أنطاكية التركية ليستقل الباص إلى إسطنبول، في أول سفر له إلى هذه البلد التي لا يعرف لغتها.
لكنها لم تكن رحلته الأولى إلى سوريا، بطبيعة الحال، فقد كان يتردد إليها بصحبة والدته لزيارة عائلتها في ريف اللاذقية. وهم، للمفارقة، علويون، وسيكونون أهل زوجته الأولى، ابنة خاله، نجوى غانم.
لن يلعب العامل الطائفي دوراً مركزياً في رؤية بن لادن للثورة السورية إلا مرة واحدة، حين يقدّر أن بشار الأسد لن «يفعل ما فعله القذافي، [لكن] هذا لا يعني أن لا يحصل [في سوريا] أكثر [مما حصل في ليبيا]، بمعنى أن الطائفة والعسكريين الطائفيين ربما يعزلونه لو تراجع». كان تقدير بن لادن أن الأسد الابن «لم يمض دهراً في الحكم. عقله لم يعطب تماماً. وخصوصاً أنه دارس وعاش في الغرب»، وشخصيته «غير مهيأة للدماء».
لقد فاجأت الثورة السورية زعيم القاعدة في كل شيء. باندلاعها أولاً، وقد كان مخططه الذهني يضعها تلو «بلاد الحرمين»، «بعد أن تنجح الثورات في كل الدول المحيطة سيصل الضغط إليها بالتبع، كالنبتة العالية تغمرها الماء بالتدريج». ثم بتوسعها في «دمشق واللاذقية وبانياس والدومة ودرعة»، وصولاً إلى «مظاهرات في جميع المدن». كما بردة فعل النظام الذي كان يتوقع منه الإصلاح، خاصة قبيل الخطاب الأول لبشار الأسد في 30 آذار 2011، عندما رأى بن لادن «أن وضعه حرج جداً ومن العقل التنحي»، ليفاجأ بخطاب «مخيب للآمال» و«فارغ المحتوى». وأخيراً خيّب الوضع السوري بن لادن عندما توقع أن «الحظر الجوي في ليبيا رادع حتى لا يتصرف الحكام تصرفاً دموياً. لذا الرئيس [الأسد] أقال محافظ درعا وأفرجوا عن المعتقلين»، لأنه «إن بدأ يقمع الناس كالقذافي سيضربونه. [ولذلك] هو الآن يتعامل بحذر شديد مع الناس». «النظام يبدو عليه خوف من الخارج وتدخلاته»، لكن «كل الحكومات لا يرغبون في سقوط بشار في هذه المرحلة. يرغبون في تحسينه للأوضاع لئلا يسقط، فسقوط سوريا زلزال ثان في المنطقة. لا اليهود ولا أمريكا يرغبون بذلك» للمحافظة على استقرار جبهة الجولان. لكنهم «يرون السقوط قادماً إن لم يعتمد [الأسد] إصلاحات حقيقية»، أما رأس النظام في دمشق فإما «عنده مشكلة أو أن أركان الدولة يضغطون عليه».
حتى الثوار لن يتطابقوا مع تصور بن لادن، فحين سينشدون «من حوران هلت البشائر/ لعيونك يا شعب يا ثائر» سيقول: «أنا أفضّل في الثورات عدم ذكر المناطق. الآن الأفضل كلام عام: نريد حرية. الشعب يريد إسقاط النظام». وحين ستسأله أم حمزة عما سيحدث إن تفاقمت الأمور واستولى الثوار على المدن وحرقوا بعض المواقع سيجيب: «سيقع الثوار في نقطة حرجة. وأكيد بينهم عقلاء»، مشدداً على أنه من «المفروض أن لا تطالب الثورات بالانتقام… نكتفي بشعار ارحل».
لم يعد من المجدي مناقشة أفكار بن لادن «الناشط» الآن، بعد مقتله ومرور كل هذه السنوات المعقدة. لكن الخزعة السورية التي قطفناها من يومياته تشير بوضوح إلى صورة المتقاعد التي آل إليها في سنواته الأخيرة بعد تقليم مخالب القاعدة واقتصار عمله فيها على الإشراف الإداري العام عبر مراسلات متباعدة، كما تدل «وثائق أبوت آباد» الأخرى.
يلقي كل ذلك الضوء على الأرضية التي أسست لبزوغ ذئب شاب كان يخطط، في هذه الأثناء، لإنشاء جماعته «جبهة النصرة». كان أبو محمد الجولاني يتابع من العراق أخبار بلده، ويتحرق لإقناع أميره أبي بكر البغدادي بدعمه لعبور الحدود وتدشين جيل جديد من السلفية الجهادية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت