ليس العالم في عجلة من أمره، في ما يخص الوضع السياسي الذي يزداد تردّياً في سورية، ففيما تبدو أميركا أكثر انشغالاً بشمال شرقي الفرات، وكأنه قضية مستقلة عن سورية أو ضعيفة الصلة بها، وتنشغل تركيا بالمناطق التي استطاعت تحصيلها من الأرض السورية خلال السنوات المريرة الماضية، تنشغل روسيا بنظام الأسد المتهالك، ودعم استمراره، ليس فقط بوصفه موطئ قدم روسية عسكرية في المنطقة، بل وأيضاً بوصفه نافذة استثمار اقتصادي، فقد دخلت روسيا، منذ حوالي ثلاثة عقود، نادي اقتصاد السوق، وخلعت المبدأ السوفييتي القديم الذي كان يخسر اقتصادياً، كي يدعم حلفاءه لمجرّد قبولهم بالتحالف في سياق حربه الباردة التي خسرها مع المعسكر الرأسمالي.
تفيد زيارة الوفد الروسي الرفيع، أخيرا، وضم نائب رئيس مجلس الوزراء يوري بوريسوف ووزير الخارجية سيرغي لافروف، تفيد بأن الروس والنظام يوطدون أنفسهم على ديمومة الوضع الحالي في سورية، بعد أن وصلت مساعي “توحيد” سورية تحت سيطرة النظام إلى طريق مسدود. لا يبدو كلام الروس، عن ضرورة إجراء إصلاحات سياسية، ذا قيمة، ذلك أنهم، في الحقيقة، لا يصرّون على فرض رؤية سياسية يرفضها نظام الأسد، لأنهم لا يجرؤون على فرض تغيير جدّي في تركيبة الحكم السوري، مخافة أن يتفكّك النظام الذي يقوم على الموقع المحوري للرئيس فيه. على هذا، يمكن أن يقدّم الروس مقترحاتٍ بخصوص اللجنة الدستورية، وأن يتكلموا عن ضرورة الإصلاح، وحتى عن الحل وفق قرار مجلس الأمن 2254، لكن هذا كله استهلاك لفظي أو “فض عتب” للمضي في مناقشة المشاريع الاقتصادية.
الجانب الاقتصادي في زيارة الوفد الروسي هو مركز اهتمام النظام الذي لم يجد رئيسه أن يقول شيئاً في الجانب السياسي، في أثناء استقباله الوفد، وكأن بلاده على ما يرام، وليست مقسّمة ومستعمرة ومستباحة، مكتفياً بالإشارة إلى “الأهمية الكبيرة لنجاح الاستثمارات الروسية في سورية”. كان عليه أن يقول في “سورية الأسد” التي باتت تعرّف بأنها الجزء الذي يحكمه الأسد، ولا يتجاوز ثلثي مساحة سورية المدمنة على النقصان منذ قرن.
يقول الروس: “في حال لم يتجه نظام الأسد نحو الإصلاحات، فسيبقى من دون أموال، ومن دون جزء من سورية، وهذا سيكون قراره”. ونقلت صحيفة روسية عن نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، أن خسارة جزء من سورية (من دون تحديد) باتت أمراً يجري الحديث عنه صراحة، بطريقةٍ توحي بإمكانية قبول الأمر الواقع والتعايش معه. وبحسب بوغدانوف، حدّدت روسيا خياراتها، ما يعني أنها تمضي اقتصادياً مع النظام بما هو متوفر سياسياً، حتى لو كان هذا المتوفر يعني سورية منقوصة. إعادة تأهيل أربعين منشأة أساسية، خصوصاً البنى التحتية لقطاع الطاقة والمحطات الكهربائية واتفاق لاستخراج النفط من البحر على الساحل السوري وحيازة مناطق كاملة من سورية مقابل المجهود الحربي الروسي فيها، هذه هي الترجمة الاقتصادية للخيارات السياسية الروسية. بكلام آخر، يبدو أن النظام، أمام صعوبة المهمة وثقل الوجودين، الأميركي والتركي، تخلّى عن “إعادة تجميع” سورية حالياً، مكتفياً بما لديه، وأن الروس، بعد أن فشلوا في فبركة حل سياسي يقدّمونه للعالم، باتوا جاهزين لتجميد السياسي الآن لصالح الاقتصادي.
لا ينم كلام لافروف عن أي جدّية روسية في فرض حل سياسي على النظام: في موضوع اللجنة الدستورية، يقول لافروف إنه لا سقف زمنياً لها، وإن الانتخابات الرئاسية لا تتوقف على انتهاء مهام اللجنة. وعن الاتفاق الذي وقعه قدري جميل (منصة موسكو) مع إلهام أحمد (الرئيسة التنفيذية لمجلس سورية الديمقراطية) في موسكو، يقول إن روسيا ليست طرفاً فيه، وإنْ جرى توقيعه في موسكو. كما يقول إن الوجود الإيراني قرار سيادي سوري. على ضوء هذه الرخاوة الروسية، لا يفهم من “الحل المقبول للطرفين” الذي تكلم عنه رأس النظام سوى أنه ترميم الوضع الاقتصادي بالقدر الممكن، مقدمة لانتخابات 2021، بعد أن تبين أن تحقيق تقدم سياسي أو عسكري بات مستبعداً.
وتوطّد تركيا نفسها في “جزئها السوري”، وتوزّع على الأهالي في إدلب، بعد يوم من زيارة لافروف دمشق، منشوراتٍ تقول فيها إن “هدفنا منع أي اجتياح أو عمل عسكري على إدلب وإعادة المدنيين الذين اضطروا للنزوح إلى منازلهم، وإحياء الحياة الاقتصادية في المنطقة من خلال فتح طريقي أم 4 وأم 5”. ننتظر إذن تدفق الحياة الاقتصادية مع احتباس أو تقطع في الحياة السياسية.
وتتبلور في منطقة الجزيرة حياة سياسية محلية، تضبط أميركا إيقاعها بين العشائر العربية التي تقوم بدور ملء الفراغ السياسي العربي هناك (على خلاف الأحزاب الكردية، لا توجد أحزاب عربية) مقابل المجتمع السياسي الذي يسيطر عليه الكرد مدعومين بالقوة العسكرية لقوات سورية الديمقراطية (قسد). تعمل أميركا على تطبيع الحياة الاقتصادية والسياسية في هذا الجزء المقتطع من سورية، فتستعين بالسعودية لتهدئة الصراع بين “قسد” والعشائر العربية، وتعد بإنعاش مناطق العشائر اقتصاديا، بتجديد محطات المياه وتوزيع معدّات الري والبذار والأسمدة وترميم المخابز وتحسين الخدمات. كما تعد سياسياً بزيادة مشاركة العشائر في إدارة مناطقها بالتشارك مع “قسد”.
هذه الصورة التي يبدو عليها الواقع السياسي في سورية اليوم ناجمة عن تعثر توافق الأطراف الدولية على حل سياسي، ما يعني أن هذا الحل غير وشيك، ولكن هذا الانسداد في أفقه لا يبدو أنه يدفع باتجاه تصعيد عسكري، كما العادة، بل باتجاه تعزيز سيطرة القوى الدولية على مناطق النفوذ التي فازت بها حتى الآن.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت