مراد عبد الجليل – السورية.نت
لم تمض دقائق على إصدار أكثر من 140 قيادياً وعنصراً، كانوا قد اعتقلوا في ظل “قضية العمالة”، بياناً يؤكدون فيه الحفاظ على “التماسك الداخلي” لـ”تحرير الشام” و”الشد على يد القيادة”، حتى ظهر قائد الهيئة أبو محمد الجولاني، متوعداً من يتجاوز “الخطوط الحمراء” في إدلب.
تهديدات الجولاني، التي قال فيها إن “العودة إلى الوراء خط أحمر، وإذا تدخلنا لحماية المحرر سنتدخل بشكل شديد”، جاءت بعد تأكده من ردة فعل القادة والعسكريين الذين تعرضوا للتعذيب من قبل الجهاز الأمني، وضمانه بأنه رغم صراع التيارات داخل الهيئة إلا أن هناك شبه إجماع على الحفاظ عليها وعدم تفككها.
ويسعى الجولاني منذ أسابيع، إلى استعادة الاستقرار داخل الهيئة وضبط صراعات النفوذ والسلطة، إلى جانب مواجهته تحدياً خارجياً يتمثل في اتساع رقعة المظاهرات التي تندد بسياسته.
ورغم أن الملف قد طُوي وأُغلق رسمياً من قبل الهيئة بإطلاق سراح من اتهمتهم بالعمالة، إلا أن تداعيات هذه القضية ما زالت تلقي بظلالها داخل “تحرير الشام”، وتضع الجولاني أمام تحد كبير في لملمة أوراقها واحتوائها وتفادي تفاقمها.
وتحدثت مصادر متعددة لـ”السورية.نت” أثناء الإعداد لهذا الملف، عن سبب إغلاق الجولاني لملف “العمالة”، والضغوطات التي تعرض لها، إلى جانب محاولاته للخروج من أزمته الحالية.
تفاصيل الصراع داخل “تحرير الشام”..قصة الجذور وسؤال المآلات
تصفية حسابات الخصوم
تعود جذور ما تشهده الهيئة اليوم، إلى يونيو/ تموز العام الماضي، عندما كُشفت شبكة عملاء لجهات خارجية، يترأسها ميسر بن علي الجبوري الملقب بـ”أبو ماريا القحطاني” الذي يمثل نفوذاً كبيراً في الهيكل التنظيمي للهيئة.
وأعلن جهاز الأمن العام “ضبط خلية جاسوسية تعمل لصالح جهات معادية”، كما أعلن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، اعتقال 20 شخصاً من الأشخاص المدنيين المتورطين بالقضية.
كما علق الجولاني على ضبط الخلية، في 28 من ديسمبر/ كانون الأول خلال ندوة لـ”حكومة الإنقاذ”، بالقول “أطمئن الجميع، ليس هناك خطر كبير وعظيم كما يتصور البعض، والأمور قد سُيطر عليها، وقد أُحيط بالخلايا”.
وأصدرت “تحرير الشام” بياناً في 17 أغسطس/ آب الماضي، أكدت فيه تجميد مهام وصلاحيات القحطاني “بعد ورود اسمه في بعض التحقيقات في قضية العمالة”.
وقالت “تبين للجنة المكلفة أنه قد أخطأ في إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل”.
ورغم أن تهمة العمالة كانت هي السبب الظاهر لاعتقال أبو ماريا، إلا أن “السورية. نت” كشفت في ملف سابق بعنوان “تفاصيل الصراع داخل تحرير الشام..قصة الجذور وسؤال المآلات”، إلى محاولة القحطاني التخطيط لانقلاب على الجولاني.
عقب ذلك بدأ مسلسل الاعتقالات من قبل الجهاز الأمني التابع للهيئة بقيادة “أبو أحمد حدود”، و “أبو عبيدة منظمات” (المحسوبين على تيار بنش)، حيث شنا عمليات اعتقالات واسعة، طالت عشرات القادة والعسكريين، بعضهم محسوبين على تيار القحطاني (الشرقية).
ومن أبرز القادة المعتقلين، كان القائد العسكري للواء “أبو بكر الصديق” المعروف بـ”أبو مسلم آفس”، ومسؤول كتيبة القوات الخاصة في “لواء سعد”، المعروف بـ”فواز أبو القعقاع”.
والمسؤول الأمني العام لمدينة إدلب “أبي محجن الحسكاوي”، والقيادي العسكري في “لواء عثمان” أبو أسامة منير، والقيادي في “لواء طلحة” عبد الحميد سحاري الملقب بـ “أبي عبدو طعوم”، إضافة إلى مئات العناصر والعسكريين.
وتطابقت أقوال قيادي سابق في “تحرير الشام” وشخصيات مطّلعةٍ على تحركات “الهيئة” لـ”السورية.نت”، بأن عدد المعتقلين قارب الألف شخص من قيادين وعسكريين وناشطين ومدنيين، الأمر الذي يؤكد أن العملية تحولت من التحقيق في قضية عمالة إلى تصفية حسابات من قبل تيار على حساب تيار آخر.
لكن الجولاني قرر بشكل مفاجئ طي الملف، عبر الإعلان عن “إنهاء أعمال التحقيقات” في 26 يناير/ كانون الثاني الماضي، بعد تشكيل لجنة خلصت إلى “الإفراج الفوري عن الموقوفين الذين لم ترتق الأدلة لإدانتهم أو ثبوت التهمة الموجهة إليهم مع أداء حقهم الشخصي”.
وبموجب ذلك أُطلق سراح الموقوفين من القادة والعسكريين على دفعات متتالية، كان آخرهم القحطاني الذي أصدرت اللجنة القضائية بياناً، الأسبوع الماضي، أكدت فيه برائته من تهمة العمالة.
الجولاني بين خيارين
الخطوة المفاجئة طرحت الكثير من التساؤلات حول الأسباب التي دفعت الجولاني إلى إخراج شخصيات ثبت تورطها بالعمالة لجهات خارجية.
وحسب قيادي سابق في “تحرير الشام” ومصدرين مطلعين لـ”السورية. نت” فإن حملة الاعتقالات التي شنها “أبو أحمد حدود” بحق شخصيات قيادية، دفعت قادة عدة ألوية في الجناح العسكري بالهيئة للاجتماع مع الجولاني، وإعلامه أن بعض المسؤولين عن الملف اتخذوه مطية لتصفية الحسابات.
وطالبوا بإطلاق سراح القادة والعسكريين فوراً، مهددين بالهجوم على مقرات الأمن العام والسجون وإخراجهم بالقوة.
هذا التهديد الواضح، دفع الجولاني للاستجابة وإطلاق سراح المعتقلين في محاولة لتجنب تصعيد الأوضاع عسكرياً بين التيارات المتخاصمة.
لكن في المقابل، أدى الإفراج عن المعتقلين إلى انزعاج قادة التيار المقابل (تيار بنش) الذين هددوا بتعليق عملهم ضمن الهيئة، بعدما اتهموا الجولاني بوضعهم في مواجهة مباشرة مع خصومهم، حسب المصادر.
وأرجع القيادي السابق في “الهيئة”، أبو يحيى الشامي، لـ”السورية. نت” إفراج الجولاني عن القادة إلى سببين، الأول يعود إلى “استشعاره بالخطر على نفسه ومكتسباته السلطوية، بعد علمه بغضب العسكريين ونيتهم تخليص رفاقهم من السجون بالقوة”.
وأوضح الشامي أن الجولاني تعرض إلى ضغوط كبيرة من قبل شخصيات قيادية وكتل عسكرية، مثل لواء علي بن أبي طالب الذي هدد بتحريك السلاح الثقيل ضد الأمنيين، في حال عدم إخراج المعتقلين.
أما السبب الثاني يعود إلى أن “الاعترافات والاعتقالات توسعت حتى أكلت عدداً كبيراً من الهيئة، في أكبر فضيحة عمالة لم تشهد الثورة مثلها، وأن هذه الاعترافات تهدد الجولاني ذاته”، ما دفعه إلى إغلاق الملف.
ويقول الباحث في الجماعات الجهادية عرابي عرابي، إن فكرة وجود عدد كبير من العملاء غير مقبولة من الناحية المنطقية، إضافة إلى ذلك، بدا واضحاً أن الاعتقالات تهدف إلى تفكيك كتل أخرى وتغول جماعة على جماعة داخل الهيئة.
ويضيف عرابي لـ”السورية.نت” أن هناك تنافساً واضحاً بين القطاع الأمني والقطاع العسكري، وعلى الرغم من عدم وضوح الفروقات بينهما، إلا أن القيادة الأمنية بقيادة أبو أحمد حدود تبدو واضحة في محاولتها لإزاحة الكتل القوية والشخصيات البارزة داخل الهيئة.
وأكد أن العسكريين اجتمعوا مع الجولاني ووضحوا الانتهاكات والتعذيب الذي وقع من قبل الأمنيين بحق المعتقلين.
كما هددوا بالهجوم على المقرات الأمنية وبعض السجون التي يرتكب فيها الانتهاكات والتعذيب، وأبرزها سجن سرمدا وجسر الشغور والشيخ بحر.
وأشار عرابي إلى أن ذلك وضع الجولاني تحت ضغط مستمر سواء من القيادات العسكرية البارزة أو من قبل الحاضنة الشعبية، بإنهاء الملف ووقف التعذيب، وإلا تأثيراته ستكون سلبية وكبيرة على الهيئة بأكملها.
هذه الأحداث المتسارعة داخل الهيئة، خلال الأشهر الماضية، كشفت عن صراع التيارات وقوتها داخل “تحريرالشام” إلى جانب ضعف الجولاني في عدم قدرته على ضبطها، حسب ما قاله الباحث في مركز “عمران للدراسات”، نوار شعبان.
ويرى شعبان لـ”السورية.نت” أن اعتقال شخصيات وتوجيه تهم لهم بالخيانة، ومن ثم إخلاء سبيلهم وإعلان برائتهم، يعتبر دليلاً على أن الإفراج كان بسبب الضغوطات وليست نتائج التحقيقات، وذلك في محاولة لمنع الأمر من التفاقم.
كما يرى شعبان أن إطلاق سراح من وجهت لهم تهم بالعمالة وتم التأكد من عمالتهم وفق تحقيقات مدروسة، دلالة على أن الجولاني غير قادر على ضبط التيارات الداخلية، وخاصة تيار القحطاني.
واعتبر أن الجولاني استخف بالقوة الداخلية للقحطاني وقدرته على التأثير على عمل الهيئة، لافتاً إلى أن إطلاق سراحه سوف يعطي زخماً وقوة للتيار المناصر له.
اتساع رقعة التظاهرات
لم تنجح محاولة الجولاني بطي الملف وإغلاقه بإطلاق سراح القادة، حيث اصطدم بغضبهم بعد تعرضهم للتعذيب والتنكيل على يد الأمنيين، حسب قيادين سابقين في “الهيئة”.
ويؤكد القيادي السابق في الهيئة أبو يحيى الشامي، تعرض العسكريين لشتى أنواع التعذيب من “السلخ حرفياً مع الحرمان من الحقوق ومن أداء الواجبات الشرعية، مع التكفير والوصف بأقذع الأوصاف، وسب الأعراض والتهديد بها”، مشيراً إلى أن الدور الأبرز في هذه القضية لأبي أحمد حدود وأبي عبيدة منظمات.
وخلال الأسابيع الماضية انتشرت صوتيات وصور لأشخاص خرجوا من السجون، وتحدثوا عن أنواع التعذيب الذي تعرضوا لها، الأمر الذي أجج الشارع ضد الجولاني.
وبدأت المظاهرات ضد الهيئة تتسع رقعتها في إدلب وريفها، كان أكبرها، الجمعة الماضي، في جسر الشغور وسرمدا وبنش والأتارب وكفرتخاريم وإدلب المدينة وتفتناز ومعرة مصرين ودار عزة ومناطق أخرى.
وطالب المتظاهرون الجولاني بالتنحي عن القيادة، وإسقاط المنظومة الأمنية، وإخراج جميع المعتقلين من سجون الهيئة، وتشكيل مجلس شورى حقيقي يقود المنطقة.
وشارك في التظاهرات قادة عسكريون وميدانيون ومشايخ وشخصيات بارزة مثل عبد الرزاق المهدي الذي يعتبر من أبرز الدعاة والشرعيين في الشمال السوري.
إضافة إلى عضو مجلس الشورى في إدلب محمد بكور أبو الصادق، الذي طالب بتشكيل مجلس قيادي وعدم التفرد بالسلطة وإبقاء قرار المنطقة بيد شخص واحد فقط (الجولاني).
وزاد الاستياء الشعبي والاحتقان في إدلب، بعد اكتشاف مقتل أحد عناصر “جيش الأحرار” المنضوي ضمن “الجبهة الوطنية للتحرير” في إدلب، عبد القادر الحكيم الملقب “أبو عبيدة تلحدية”، تحت التعذيب في سجون الهيئة.
واعتقل الجهاز الأمني الحكيم في 15 من مايو/ أيار العام الماضي، بتهمة العمالة بعد استلامه حوالة مالية من أجل توزيعها على الفقراء، حسب مصدر محلي لـ”السورية.نت”.
وبعد مماطلة من قبل الهيئة لكشف مصير الحكيم، أخبرت الشهر الماضي أهله وقيادة فصيله برئاسة “أبو صالح الطحان” بوفاته، ليتبين لاحقاً أنه قتل تحت التعذيب أثناء التحقيق معه منذ 7 من يونيو/ حزيران العام الماضي.
وعقب ذلك تصاعدت المطالبات من قبل قيادة “جيش الأحرار” والقادة العسكريين والمتظاهرين في الشارع بتسليم المسؤولين عن التعذيب واعتقالهم وعلى رأسهم “أبو عبيدة منظمات” و”أبو أحمد حدود”.
حدود ومنظمات.. شخصيتان نافذتان
ويعتبر “أبو أحمد حدود” و”أبو عبيدة منظمات” من أهم القادة الأمنيين داخل “تحرير الشام”، ويتوليان مسؤولية تنظيم وإدارة الأمن داخل الهيئة، ولهما دور في إدارة السجون وتنفيذ الاعتقالات والتحقيقات.
ومع ذلك، فإن المعلومات حول الشخصيتين النافذتين، قد تكون محدودة وغير وافية، باستثناء ما نشره قياديون سابقون في الهيئة وحسابات عبر “إكس” على اطلاع بهذه الشخصيات.
حسب القيادي السابق في “جبهة النصرة” أبو العلاء الشامي، عبر قناته في “تلغرام” فإن “أبو أحمد حدود يدعى أنس خطاب، وينحدر من مدينة جيرود بريف دمشق”.
في حين يقول حساب “مزمجر الشام” عبر “إكس” أن حدود من مواليد 1987، والتحق بكلية الهندسة قبل تركها للذهاب إلى العراق والانضمام إلى تنظيم “الدولة” في صحراء الأنبار في 2008.
ويضيف أن “حدود عاد إلى الحدود السورية- العراقية بعد رفضه تنفيذ عملية استشهادية في العراق، قبل أن يعين أميراً لقطاع الحدود بعد مقتل أميره التابع لتنظيم الدولة مع مرافقيه في كمين لحرس الحدود العراقي”.
وتابع أنه “بعد تأسيس جبهة النصرة ومقتل ياسر العراقي مرافق الجولاني تم تكليف أنس بمرافقة الجولاني ( مدير مكتبه)، وذهبا سوياً إلى دمشق، وأقاما فيها لعدة شهور، انتقل بعدها الجولاني وأنس إلى الشمال السوري”.
وتكلف حدود بعدة مناصب منذ 2013 منها، “المسؤول عن معسكرات التنظيم في الشمال بالقرب من الحدود التركية”، و”المسؤول الإداري العام لتنظيم القاعدة في سورية”.
وفي عام 2015 عين مسؤولاً أمنياً عاماً لتنظيم القاعدة، وفي العام اللاحق تم تعيينه أيضاً كنائب للجولاني، حسب “مزمجر الشام”.
وتعود أهمية أبو أحمد حدود إلى ارتباطه بعدة ملفات حساسة في الهيئة، “أبرزها مسؤول الأمن والإدارة الذي يحوي كافة بيانات التنظيم وأسراره ، ومن ضمنها ملف عمليات التحالف وحوادث الاغتيال”.
وخلال التحقيق في قضية العمالة الأخيرة، كان أبو أحمد حدود عضواً في اللجنة التي شكلتها الهيئة، وهو من أعطى “أوامر خطية بتعذيب العسكريين والأمراء المعتقلين بعد التنسيق مع الجولاني”، حسب القيادي “أبو العلاء الشامي”.
أما “أبو عبيدة منظمات”، تقول قناة “إدلب بوست” عبر “تلغرام”، التي تتبع للقيادي السابق في الهيئة جهاد عيسى الشيخ الملقب بـ”أبو أحمد زكور”، إن اسمه محمد قرمو وينحدر من بلدة كرناز بريف حماة.
وتربط أبو عبيدة منظمات صلة قرابة مع أبو أحمد حدود، فكلاهما متزوجان من نفس العائلة من كفرنبل بريف إدلب.
وكان أبو عبيدة منظمات مسؤولاً عن ملف عملاء التحالف في جهاز الأمن العام، وهو المكلف بالتحقيق مع قيادات الهيئة العسكرية وغيرها.
واتهم القيادي أبو أحمد زكور، عبر حسابه في “إكس“، أمس الاثنين، أبو عبيدة بأنه عميل للتحالف، بعد “طلبه لإحداثيات وصور شخصيات لها ارتباط بالحراس و القاعدة، تم قصفها من قبل التحالف”.
وقال إن اعتقال جزء كبير من القادة بتهمة العمالة هي “ردود فعل وأزمات نفسية من أبو عبيدة تجاه بعض الأشخاص في الهيئة”، مضيفاً أن “الذي ساعد منظمات بالتنكيل بالعسكريين و إعتقالهم هو عدم وجود ضابط شرعي داخل جهاز الأمن، فليس هناك قدر معين للاعتقال دون دليل أو أعتراف و ليس هناك ضابط للتعذيب”.
وحسب القيادي “أبو يحيى الشامي”، فإن الجولاني أمر باعتقال أبو عبيدة منظمات المسؤول عن التحقيق، و”حجز جوالاته والحواسيب المحمولة وجوالات عياله، ووضع في سجن خمس نجوم في مضافة باب الهوى”.
امتصاص الصدمة وتحرك الجولاني
تصاعد الغضب في الشارع، دفع الجولاني إلى التحرك شكل متسارع على عدة مستويات، في محاولة منه لتهدئة الأوضاع، الأمر الذي يعكس إحساسه بالضغط الداخلي والحاجة إلى تهدئة الأوضاع.
المستوى الأول كان قرار الجولاني بتكرار الظهور الإعلامي وعقد اللقاءات والاجتماعات مع الوجهاء والنخب المحلية في المنطقة.
وقال، خلال لقاء مع أعضاء “مجلس الشورى العام” في إدلب، و”حكومة الإنقاذ” في 2 من فبراير/ شباط الماضي، إنه “خلال الأشهر الماضية، جرت بعض الإجراءات الخاطئة من قبل الأخوة الذين يعملون على مكافة عمليات التجسس، أوصلت المتهمين إلى الإدلاء بمعلومات كاذبة وكثيرة جداً، فأغرقوا المحققين في معلومات كثيرة وذكرت أسماء كثيرة”.
وأضاف “استخدام المحققين وسائل الضغط الشديدة والممنوعة أساساً في الجهاز الأمني على المعتقلين، مما دفع المعتقلين للتخلص من الضغط الشديد، وليس لديه مهرب، إلا أن يتكلم فأدلى معلومات كثرة أغرق فيها المحققين”.
وأكد الجولاني على أن “كثرة الأسماء دفعنا للشك في وجود شيء خاطئ بالإجراءات، لأن الأسماء لها وزنها وقيمتها وتاريخها، وأغلب الناس الذين كانوا في السجن لديهم شهداء”.
كما قام الجولاني بزيارة القادة المفرج عنهم، وعقد معهم اجتماعات متتالية واعتذر منهم عما ذاقوه من تعذيب داخل السجون.
وخلال زيارة الجولاني للقائد العسكري للواء “أبو بكر الصديق” المعروف بـ”أبو مسلم آفس”، توعد بمحاسبة كل من تسبب بالأذى الذي تعرض له وباقي المعتقلين.
كما أكد، في كلمة له، على اتخاذ إجراءات كثيرة من أجل “تصحيح الأجهزة الأمنية حتى لا يتكرر الأمر مرة أخرى”.
ورغم اعتراف الجولاني بأن ما حصل “شيء مؤلم”، طالب بعدم الوقوف عنده وإلقائه وراء ظهورهم، والالتفات إلى “الجبهات وميدان العمل”.
كما أكد خلال التقائه وجهاء ونخب المناطق المحررة للاستماع إلى مطالبهم في 5 من الشهر الحالي، على وجود “إجراءات إصلاحية داخل الجهاز الأمني وتطوير للعملية القضائية والرقابية حتى لا يتكرر مثل هذا المشهد”.
وأضاف أن “هناك جلسات دورية ستكون حتى نستمع إلى آراء الناس وأحوالهم، ونسعى قدر ما نستطيع لتقديم الخدمات”.
كما أعلن الشرعي العام في “تحرير الشام”، عبد الرحيم عطون، عبر قناته في “تلغرام” عن “توقيف المحققين الذين تولوا التحقيق في القضية، وكذا من طلبت اللجنة القضائية توقيفه لاحقاً”.
و”تشكيل لجنة قضائية تنظر في حقوق الموقوفين المفرج عنهم، وفيما تعرضوا له، وتحاسب كل من يثبت تورطه وتجاوزه”، إلى جانب “عقد سلسلةٍ من اللقاءات والجلسات مع مختلف الجهات والشرائح؛ المدنية والعسكرية، لوضعهم في صورة آخر المستجدات”.
كما أكد عطون على “إجراء مراجعة شاملة للإجراءات الأمنية، بغية اتخاذ جملة من الخطوات والإصلاحات التي تضمن عدم تكرار ما حدث”، إضافة إلى “زيارة السجون الأمنية، للاطلاع على واقعها، وحال الموقوفين بالعموم”.
أما المستوى الثاني كان من خلال إصدار “حكومة الإنقاذ” التابعة للهيئة عفواً عاماً عن السجناء والموقوفين، إضافة إلى مرسوم يتعلق بإلغاء الرسوم المالية عن الأبنية السكنية.
كما أعلن “مجلس الشورى العام” تشكيل لجان في مناطق إدلب المدينة وأريحا وأطمة والمنطقة الشمالية والمنطقى الوسطى ومنطقة جسر الشغور ومنقطة حارم وسرمدا.
ومهمة هذه اللجان عقد جلسات مع الأهالي للاستماع إلى مطالبهم وشكاويهم والعمل على تقديم المساعدة وتأمين الدعم لهم، وتقديم المقترحات لتأمين الخدمات وتحسينها.
خيارات الجولاني
من خلال الإجراءات السابقة، يحاول الجولاني امتصاص غضب العسكريين وتهدئة الشارع، لكن تبقى التساؤلات بمدى قدرته على ذلك ومصير الهيئة على المدى القريب.
وحسب القيادي السابق أبو يحيى الشامي لـ”السورية. نت” فإن “الجولاني يتعامل بطريقة الترغيب والترهيب والإلهاء، الآن يخوف القادة الأمنيين العسكريين من محاسبة الشعب لهم إن نجح في ثورته ضد تفرده وطغيانه، والذين تنطبق عليهم هذه الحالة كثر، هو يستميلهم بهذا الطرح”.
ووصف الشامي الجولاني بأنه “ماكر يمكن أن يوظف الخديعة لتجاوز هذه الأزمة، لكن لن يتجاوزها على المدى البعيد، حيث لا حلول عنده لمشاكل هذا الشعب إلا القمع أكثر والاستبداد أكثر، وهذا وقود الثورات”.
وحول إمكانية تنحي الجولاني عن قيادة الهيئة، أكد أن “شخصية الجولاني لا تقبل الانصياع للنصائح أو الطلبات، وإن كانت محقة، هو ينفذ ما يراه وما يهواه، لذاك ستكون المواجهة بينه وبين الثورة حتمية، ونهايته كنهاية أي طاغية”.
من جانبه اعتبر الباحث في الجماعات الجهادية عرابي عرابي، أن ما يدور عبر الإعلام بوجود انقسام كبير داخل الهيئة وأنها ذاهبة إلى التفكك غير صحيح، بل على العكس هناك مساعي للاحتواء ليس من قبل الجولاني وإنما من قبل كتل الهيئة.
ويرى عرابي أن “مساعي الاحتواء نجحت، لأن الكتل ليس لديها مصلحة بضعف الهيئة وتفككها أمام الفصائل الأخرة، لذلك هناك شبه إجماع بالحفاظ على كيان الهيئة”.
كما أن “هناك شبه اجماع على ضرورة محاسبة وإعادة هيكلة الجهاز الأمني، وهذين الأمرين لا يتمان دون وجود الجولاني”.
وكان 148 قيادياً وعنصراً، كانوا قد اعتقلوا على خلفية القضية الاخيرة، أصدروا بياناً أكدوا فيه “الثقة التامة باللجنة القضائية المكلفة بمحاسبة المسؤولين عما حدث وتعويض المتضررين”.
كما أكدوا على “ضرورة الحفاظ على تماسكنا الداخلي”، و”قطعاً للطريق على المتربصين بنا من النظام وحلفائه وغيرهم”.
وشددوا في بيانهم على “ثقتنا في جماعتنا ونشد على أيدي القيادة في اتخاذ القرارات والخطوات الإصلاحية اللازمة لتدارك ما حصل وضمان عدم تكراره”.
وتوقع عرابي خروج الجولاني من أزمته الحالية بطريقين يسلكهما بالتوازي، الأول “التشويش على المظاهرات الأصلية”.
واعتبر أن التشويش سيكون من خلال تسليط الضوء على خلفيات مناطقية وحزبية وفصائلية والتحذير من فتنة داخلية.
أما الطريق الثاني هو عمل “حكومة الإنقاذ” على تحسين الوضع المالي والاقتصادي في المنطقة، وهذا يتطلب تخفيض خدمات مثل أسعار الكهرباء والضرائب.
واعتبر أن “الهيئة ستظهر التماسك، رغم أن ملف التحالف وقضية العمالة ستبقى موجودة داخل الهيئة”.
أما حراك الشارع “سيتم احتواءه والعمل على تحقيق بعض المطالب والإصلاحات، مثل عدم اعتقال أي شخص إلا بمذكرة قضائية وأن يكون هناك مدة توقيف محددة”.
إضافة إلى “رفع حرية سقف التعبير والرأي، والسماح لأنشطة متعددة بالظهور يعني محاولة احتواء”.
وأوضح عرابي أن الجولاني من الممكن أن يتراجع إلى الخلف ويبقى ممسكاً بقيادة الهيئة، دون أن يكون له دور في الواجهة، حتى يتهيأ الجو مرة اخرى ويعود للظهور.
وكان الجولاني استقال من قيادة “تحرير الشام” في 2017 وعين هاشم الشيخ أبو جابر القائد السابق لـ”أحرار الشام” زعيماً صورياً للهيئة.
تهديد ووعيد
أما الباحث في مركز عمران للدراسات، نوار شعبان، رجح أن تكون المرحلة المقبلة هي مرحلة حرب داخلية، وقد تشهد اغتيالات تستهدف الجهتين (التيارين).
وقال شعبان إن المظاهرات في الشارع يمكن استخدامها من قبل التيارين، متوقعاً أن تكون إحدى الأودات والأوراق التي يمكن استخدامها خلال الفترة المقبلة.
وحول مستقبل الهيئة أكد شعبان عدم التنبؤ به، لكن ما شهدته يعتبر تحدياً كبيراً للجولاني.
وأضاف “التحدي الأول فشل بمرحلة خطيرة بشكل كبيرة، وهي مرحلة إعادة الهيكلة بحسب ما يتوافق مع التواجه العام الدولي، وأثبت للعالم ليس لديه قدرة على ضبط كافة التيارات الموجدة داخل الهيئة”.
وأشار إلى أن الحل الوحيد أمام الجولاني الآن هو “الحل الأمني” لضبط ما يجري داخل الهيئة.
وقال الجولاني، خلال كلمة له أمام المؤسسات العامة والفعاليات الثورية في إدلب أمس الثلاثاء، إن “هناك مطالب أعتقد أن الوقت لا يسمح بها الآن، أو ستؤثر على مسار حياة عامة الناس، لكن هناك حد وهناك خطوط حمراء في المحرر يجب أن يعيها الجميع”.
وأضاف “خطوط حمراء أرجو ألا يصل أحد إليها، وأرجو أن توقفون من يسعى لخراب المحرر، لأنه إذا تدخلنا لحماية المحرر سنتدخل بشكل شديد”
وتابع “لن نسمح لأحد على الإطلاق بأن يمس المحرر بسوء، وما وصلنا إليه من مكتسبات لن نعود فيها إلى الوراء على الإطلاق، لذلك انتبهوا وحذروا الناس، لأن ما بني في سنوات لن نسمح له أن يهدم على الإطلاق، فهو بني على دماء وأشلاء وتضحيحات كثيرة من الناس”.
وطالب الجولاني “العيش بالمحرر جميعاً بسلام وأمان، ولا نعود إلى المربع الأول”، معتبراً أن “هناك من تضرر من انضباط المحرر ويريد العودة به إلى الوراء، مستغلاً بعض المطالب المحقة والحادثة الأخيرة التي حدثت”.
وأكد أنه “بعد هذا المجلس أرجو أن يكون الأمر قد حل، وبالتالي العودة إلى الوراء خط أحمر بالنسبة إلينا، والأمر ليس بالعبث وأرجوا أن تنبهوا كل من وراءكم ألا يصل إلى الخطوط الحمر المرسومة بالمحرر، والخط الأحمر أن تمس الثورة المباركة بضرر كبير”.