استغرب مراقبون كثر توقّف الهجمات الإسرائيلية للمواقع والأهداف الإيرانية في سوريا خلال أكثر من شهر، وراح بعضهم يحاول ربط ذلك بما يجري من أحداث في المنطقة والعالم، مرجحاً إمكانية عقد مقايضة بين إسرائيل وإيران في لبنان والعراق، وخاصة بعد اتفاق الترسيم الحدودي بين إسرائيل ولبنان، والذي اعتبره “حزب الله” اللبناني التابع لإيران بمثابة “الانتصار التاريخي”، لكن، وقبل أن تبدأ احتفالات محور المقاومة الإيراني بإنجازهم التطبيعي مع إسرائيل، وليس التاريخي، استأنفت إسرائيل الجمعة الماضية قصفها لمواقع إيرانية في محيط مدينة دمشق، وكالعادة صمتت إيران، ولم يخرج منها أي ردّ فعل، وكأن شيئاً لم يكن.
وليست المرة الأولى التي يصمت فيها ساسة إيران، بل يتكرر الأمر في كل مرّة تستهدف فيها إسرائيل مواقع وجود الحرس الثوري والميليشيات التابعة لإيران في سوريا، لذلك لا يتوقف مراقبون عن طرح أسئلة حول أسباب عدم قيام إيران بأي ردّ عسكري عليها، على الرغم من أن وتيرة هجماتها تزداد أحياناً وتوقع قتلى وجرحى، لكنها تمرّ من دون أي ردّ إيراني عليها.
بالمقابل، لا يتوقف ساسة إيران وجنرالاتها عن إطلاق تصريحات نارية وتهديدات في مناسبات عديدة، يتوعدون فيها بتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود وإزالتها من الخريطة، وليس آخرها تصريح قائد الدفاع الجوي في الجيش الإيراني، علي رضا صباحي فرد، الذي تحدى فيه الإسرائيليين بالقول “إذا أراد الإسرائيليون تسريع زوالهم فلينزلوا إلى الساحة”، وكأنه لم يشاهد أو يسمع بما يحدث في الساحة السورية، لذلك راح يستقوي على الإسرائيليين بساحات لبنان وغزة، فيما بقي تحديه مثل تحديات سابقة دون ترجمة، لا في الساحة السورية ولا في سواها.
اللافت، هو أن قائد القوات البرية في الجيش الإيراني، كيومارس حيدري، تباهى في 12 من سبتمبر/ أيلول الجاري بأن بلاده طورت طائرة مسيرة انتحارية، قادرة على استهداف تل أبيب وحيفا، يُطلق عليها اسم عرش-2، وهي نسخة مطورة من الطائرة عرش-1، والمستهجن في الأمر أن إيران ليست بحاجة لتطوير مسيرات من أجل ضرب إسرائيل، فهي تملك مئات المسيرات، ونقلت عدداً منها إلى كل من العراق وسوريا واليمن، فضلاً عن امتلاكها وسائل أخرى يمكن أن تستهدف تل أبيب وسواها، لو أرادت ذلك.
واللافت أيضاً، هو أن إيران تقوم بالتحرش بقواعد للقوات الأميركية في سوريا، وبالسفن الأميركية في الخليج، وتهدد باستمرار الدول العربية التي توجد على أراضيها قوات أميركية بإمكانية إلحاق الضرر بها، لكنها تلوذ بالصمت حيال الهجمات الإسرائيلية المتكررة على قواتها وميليشياتها في سوريا.
وتنهض المعادلة غير المعلن عنها، لكنها قائمة بالفعل، بين إسرائيل وإيران، على مواصلة إسرائيل توجيه ضرباتها لوجود إيران العسكري في سوريا، بغية عدم تمكينها من بناء قواعد عسكرية أو منشآت لتصنيع أسلحة يمكن أن تهدد أمنها، مقابل مواصلة إيران إرسال شحنات أسلحة ومقاتلين إلى سوريا، شريطة أن تستهدف إسرائيل فقط ما يمكن تسميته فائض القوة الإيراني في سوريا، ولا تستهدف الوجود الإيراني بشكل عام، خاصة إذا كان هدفه مواصلة الدفاع عن نظام الأسد، لذلك فإن هذه المعادلة تستلزم استيعاباً وصمتاً إيرانيين حيال الضربات الإسرائيلية، مقابل عدم إعلان إسرائيل عنها، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، ذهب إلى حدّ مطالبة وزرائه بتجنب التعليق عليها، والأهم هو عدم قيام إيران بأي رد عسكري، وذلك تحسباً من أن أي ردّ إيراني يستهدف العمق الإسرائيلي، قد يفضي إلى اشتعال حرب بين إسرائيل وإيران داخل سوريا، وربما خارجها أيضاً، وهو أمر يقع خارج حسابات ساسة إيران وجنرالاتها، وكذلك خارج حسابات نظرائهم الإسرائيليين، ويتفادى الطرفان الوصول إليه.
وتفترض المعادلة الإسرائيلية الإيرانية في سوريا، أو ما يمكن تسميته معادلة فائض القوة، عدم استهداف نظام الأسد، لكن ذلك لا يمنع من أن تودي الهجمات الإسرائيلية بحياة جنود سوريين، فالنظام لا يقيم لأرواحهم أي وزن، لأنه يخوض معركته الوجودية مع الشعب السوري وليس مع إسرائيل، ورضي في أن تتحول مناطق سيطرته إلى ساحة للمواجهة غير المباشرة بين إيران وإسرائيل، لذلك لا تريد إسرائيل زيادة تهالكه وضعفه بضرباتها، طالما يقوم بدوره المطلوب، ولا يصدر عنه أي رد فعل على هجماتها سوى بعض الجمل والجعجعات الفارغة التي يحملها خطابه الممانع والأجوف، ويجد في مواصلة تدمير سوريا والتنكيل بالسوريين، وارتكاب المزيد من المجازر بحقهم.تعويضاً عن الإذلال والمهانة التي يتلقاها
وليس من المرجح أن إسرائيل تهدف من وراء هجماتها المتكررة إخراج إيران من سوريا، بل منعها من إمكانية تشكيل خطر عليها، عبر عدم تمكينها من الحصول على فائض القوة، الزائد عن مستلزمات دفاعها عن نظام الأسد، وهو أمر لا يمس استمرار نفوذها وتغلغلها، ويضمن بقاء سوريا جزءاً من مشروعها التوسعي في المنطقة، وممراً للطريق الواصل بين طهران وبيروت. كما أنه من غير المرجح أيضاً أن ساسة إيران وعسكرها لا يعلمون بأن الهجمات الإسرائيلية على قواتهم وميليشياتهم في سوريا تجري بالتفاهم بين الروس والإسرائيليين، لأنه يمكن القول إنها تجري تحت الرعاية الروسية، وليس بالتنسيق بينهم فقط، لأن استهداف فائض القوة الإيراني فيه مصلحة لروسيا، بوصفها الطرف الأقوى في الساحة السورية، ويفسر في نفس الوقت الطلب الروسي المتكرر للإيرانيين بإبعاد قواتهم عن مواقع وجود القوات الروسية، وألا تحاول الاحتماء بالجنود السوريين والروس، واستخدامهم كدروع بشرية، إضافة إلى ضرورة “عدم إعطاء الإسرائيليين حجة، أو ذريعة لمواصلة القصف”.
وعلى الرغم من التحالف الروسي الإيراني، فإن الرعاية الروسية للهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا لا تثير سوى بعض الامتعاض والانتقاد من طرف بعض ساسة إيران و”حزب الله” على تساهل الروس مع الغارات الإسرائيلية، لكنهم لا يسعون إلى الإخلال بالمعادلة المفروضة، والتي تنضم إلى مصفوفة تفرض جملة من التوازنات في الوضع السوري، وتمتلئ صفوفها باستمرار إسرائيل في هجماتها على المواقع الإيرانية، مقابل مواصلة إيران شحن أسلحتها ومقاتليها إلى سوريا، فيما يواصل الروس تأدية مهامهم في الرعاية والتسهيل، مع استمرار رضوخ نظام الأسد لمتطلبات مصفوفة التوازن القائمة، التي تجعل مناطق سيطرته ساحة مستباحة من طرف جميع قوى الاحتلال، وثمناً ضرورياً من أجل بقائه جاثماً على صدور السوريين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت