ضمن قرى وبلدات ثلاث محافظات في شمال وشرق سورية، تحاول روسيا فرض واقع ميداني جديد على الأرض؛ ورغم أن تفاصيله بدت واضحة، إلا أن خلفياته واحتمالات تطبيقه لم تتبلور تماماً، بانتظار ما ستحمله الأيام المُقبلة من نتائج مفاوضات ومشاورات وتفاهمات، سواء مع القوى المحلية أو بين الدول المعنيّة.
ومنذ أسابيع وعلى طول الطريق الدولي حلب- اللاذقية (m4)، تجري القوات الروسية مناورات عسكرية بالذخيرة الحيّة، في خطوة قرأها مراقبون على أنها بمثابة رسائل موجهة لتركيا التي سبق أن هددت بعملية عسكرية ضد “وحدات حماية الشعب” (العماد العسكري لقوات سوريا الديمقراطية).
وبالتزامن مع المناورات التي شاركت فيها قوات النظام الأسد اتجهت موسكو شرقاً، حيث مطار القامشلي الذي حولته قبل ثلاثة سنوات إلى قاعدة عسكرية لها.
إذ نشرت فيه قبل نحو شهر، طائرات “سوخوي”، في تطور هو الأول من نوعه، ورافقه نشر منظومات صواريخ دفاع جوي (s300) في مطار الطبقة العسكري، وذخائر أخرى في قاعدة صرين الواقعة في محيط مدينة عين العرب (كوباني).
هذه التطورات التي تصب في معظمها ضمن نطاق توسيع النفوذ الروسي، تبعتها أخرى مشابهة في أقصى الجنوب الشرقي للبلاد، حيث تحاول القوات الروسية اختراق القسم الخاضع لسيطرة “قسد” في دير الزور، من أجل فتح ممر دائم لها، وهو ما قوبل بغضب شعبي، تحول قبل أيام إلى حادثة اشتباك بالرصاص.
“سياقات لفهم التحركات”
ما تعمل عليه روسيا في شرق سورية الآن وعلى الرغم من أنه ليس جديداً، إلا أن الظرف الذي يأتي فيه يطرح عدة تساؤلات عن الهدف الذي تسعى لتطبيقه، وعما إذا كانت ستنجح في ذلك، خاصة أن المنطقة الممتدة من الرقة مروراً بالحسكة ومن ثم دير الزور كانت في السابق “محرمة عليها”، لاعتبارات تتعلق بالنفوذ الأمريكي.
وعلى مدى الأسابيع الماضية لم تأت التحركات الروسية في شرق سورية بشكل مفاجئ، بل جاءت بعد أيام من تهديد تركيا بشن عمليات عسكرية ضد “وحدات حماية الشعب”، مع ترجيحات أن تستهدف هذه النقاط أو بعضها: عين العرب(كوباني)، مدينة تل تمر، مدينة تل رفعت، مدينة عين عيسى بريف الرقة.
ولم يعرف بالتحديد ما إذا كانت تركيا ستشن العملية العسكرية بالفعل، أو أنها قد تتجه إلى مسارات أخرى تستند بشكل أساسي على التفاوض مع الروس، والذين دخلوا بقوة بموجب التحركات الأخيرة، لاسيما على طول الحدود الشمالية لسورية.
أما أمريكا فتسود ضبابية من جانبها بشأن ما تعمل عليها روسيا أو حيال التهديدات التركية الأخيرة، وسبق أن أكد المتحدث باسم “البنتاغون”، جون كيربي، أن واشنطن تحرص على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع موسكو في سورية، موضحاً أن الولايات المتحدة لديها قنوات اتصال مع الجانب الروسي لمنع نشوب مشاحنات “للتأكد من عدم وجود سوء تقدير وعواقب غير مقصودة”.
في المقابل لم يصدر أي تعليق رسمي من جانب موسكو، بينما اقتصر الإعلان عن المناورات العسكرية في الأيام الماضية من جانب “قسد” ووسائل إعلام مقربة من نظام الأسد، والتي أشارت إلى دور تلعبه قوات الأخير في المنطقة أيضاً.
“مهام تكتيكية”
في حديث لـ”السورية.نت” يرى المحلل السياسي المقرب من الخارجية الروسية، رامي الشاعر، أن روسيا بمختلف مهام قواتها العسكرية في سورية تتركز مهامها بالدجة الأولى في “الحفاظ على نظام التهدئة، وإخضاع كافة الأراضي السورية لسيطرة الحكومة”، حسب تعبيره.
ويقول:”من ضمن المهام أيضاً إعادة عمل مؤسسات الدولة، وخاصة الحدود والمراكز الحدودية ومنافذها والطرق الأساسية التي تربط مناطق البلاد ببعضها”.
وبشأن ما تشهده مناطق شمال وشرق سورية من تحركات للروس يوضح الشاعر أن المهام المذكورة تأخذ اليوم طابعاً تكتيكياً “بالتنسيق مع تركيا وإيران ضمن مجموعات أستانة”، والمضي بهذا يأتي “لتحقيق هدف استراتيجي وهو عودة السيادة على كافة الأراضي السورية وخروج كل القوات الأجنبية، بالتوازي مع تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 وعملية الانتقال السياسي السلمي على أساسه. وهذا ينطبق أيضاً بشكل كامل على مناطق الشمال السوري”.
من جانبه يرى الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، نوار شعبان، أن التحركات الروسية في الشمال الشرقي لسورية يمكن قراءتها على أنها بمثابة “إظهار القوّة العسكرية”.
واستعرض شعبان في حديث لـ”السورية.نت” المراحل التي مرت بها روسيا من أجل توسيع النفوذ في شرق سورية، أولاً من خلال الاستقطاب بعمليات التجنيد، ومن ثم استمالة العشائر، وهو الأمر الذي لم ينجح حتى الآن.
ويضيف الباحث، أن “روسيا تحاول الآن التدخل بشكل تدريجي وغير متسرع. في السابق جربوا مداخل عديدة لاختراق شمال وشرق سورية، واليوم يحاولون الاستفادة من القواعد العسكرية القديمة، وبالتالي التحوّل من التقرب للحاضنة إلى فرض واقع عسكري جديد”.
ويستبعد شعبان أن تنجح روسيا في فرض نفوذها الكامل على المنطقة، على الرغم من استخدامهم لأدوات مختلفة من أجل التأثير.
ويوضح: “جربّت موسكو في الأيام الماضية الجانب الأمريكي في تل تمر أولاً ومن ثم في الصالحية بدير الزور. تأثير واشنطن ما يزال حاضراً حتى اليوم”.
أين تتجه الأوضاع؟
في الوقت الحالي يهيمن الغموض على المشهد في مناطق شمال شرقي سورية، فتركيا تواصل تهديداتها وتحشد على الأرض، بينما تواصل المناورات، وتحلّق طائراتها في أجواء المحافظات الثلاث المذكورة سابقاً (الرقة، الحسكة، دير الزور).
ويعود التدخل الروسي في شرق سورية إلى أواخر عام 2019، عقب قرار الانسحاب الجزئي الذي أعلنه الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عندما أطلقت تركيا عملية عسكرية تحت اسم “نبع السلام”.
وبعد تلك الفترة أبرمت موسكو وأنقرة اتفاقاً في مدينة سوتشي، ونص على ضرورة إبعاد “وحدات حماية الشعب” عن الحدود مسافة 30 كيلومتراً، على أن تحل محلّها قوات نظام الأسد ووحدات من الشرطة الروسية.
وقبل أيام، وفي سياق التطورات المتلاحقة كانت الرئيسة المشتركة لـ”مجلس سوريا الديمقراطية”، إلهام أحمد قد أعلنت رفض “مسد” عرضاً روسياً بإدخال مقاتلين من قوات نظام الأسد إلى مدينة عين العرب (كوباني).
وجاء حديث أحمد في ندوة حوارية نظمها “مسد” (الذي يعتبر الذراع السياسي لقسد) في مدينة الرقة، وحضرها مسؤولون في المجلس وناشطون، وقالت إن مسؤولي شمال شرقي سورية رفضوا مقترحاً روسياً بإدخال ثلاثة آلاف عنصر من القوات الحكومية إلى مدينة عين العرب.
ومن المقرر أن تعقد أحمد اجتماعاً مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف في العاصمة موسكو خلال الأيام المقبلة، وذلك بعد وصولها الأحد على رأس وفد من “مسد”.
ويقول المحلل السياسي الروسي، رامي الشاعر إنه “يجري العمل في الوقت الحالي على اتفاق لمشاركة (القوى الكردية) في التوصل إلى هدف استعادة السيادة السورية الكاملة مع أخذ بعين الاعتبار حقوقهم التي يسعون إليها ضمن إطار الدولة السورية الموحدة”.
ويضيف لـ”السورية.نت”:”يجري الآن العمل على إيجاد حل للمسلحين الأكراد وكيفية التعامل مع هذا الواقع ومشاركتهم في مستقبل المؤسسات العسكرية والأمنية الموحدة ومن ضمن الاحتمالات تشكيل فرقة على شاكلة الفرقة الخامسة في الجنوب مع ضمان حقوق كل المسلحين والدور الكبير الذي قاموا به في محاربة التنظيمات الإرهابية”.
وبخصوص الشرطة العسكرية الروسية يشير الشاعر إلى أنها “تلعب دور الوسيط والفصل والمراقبة في مناطق الاحتكاك على الحدود الشمالية التي تخضع لرقابة الجانب التركي”، والتي تتواجد فيها أيضاً فصائل “الجيش الوطني السوري”.
و”فصائل الجيش الوطني يتم أيضاً بحث سبل كيفية تسوية أوضاعهم ومستقبل عملهم وتوكيل مهام إليهم ضمن أراضي الدولة السورية الموحدة”، بحسب الشاعر.
“ليس من السهل”
في سياق ما سبق وضمن الحديث عن خلفيات الدور الروسي المتسارع يرى الباحث بالشأن الكردي، شيفان إبراهيم، أن موسكو تحاول من جهة الضغط على تركيا بتدخلها في ملف شرق سورية، وأيضاً تسعى لتوسيع نفوذها العسكري لتحقيق مكاسب تكررها بشكل دوري.
ويقول إبراهيم لـ”السورية.نت”، إن “روسيا تسعى للسيطرة على منابع النفط وإعادة سيطرة النظام حتى على معبر سيمالكا”، وهذا يصب ضمن إطار السياسة التي تسير عليها موسكو منذ تدخلها عسكرياً وسياسياً في عام 2015.
وبحسب الباحث فإن أمريكا “لن تقبل بالتمدد الروسي أكثر، حتى أنها تسعى إلى إنشاء قاعدة عسكرية في مدينة تل تمر، إحدى أبرز مناطق النفوذ الروسي، وأعتقد أن القوى المحلية الفاعلة لن تستطيع فعل شيء”.
ويضيف: “تمدد موسكو فشل في دير الزور، وسيفشل أيضاً في محافظة الرقة”، مشيراً: “لن يكون من السهل أن تتنازل أمريكا لروسيا عن الرقة تحديداً. روسيا تحاول التمدد لكن لن تنجح ولا أتوقع أن تصل إلى مرادها قبل أي تنسيق سياسي جديد”.
غليان شرق الفرات(1): “قسد” بين الضغط التركي – الروسي وثلاثة سيناريوهات