لم يكن اسم أنور رسلان معروفاً على نطاق واسع قبل اعتقاله في ألمانيا في شباط 2019، حيث وجّه له الادعاء الألماني اتهامات تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتعذيب والاغتصاب، عندما كان رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب ذي السمعة السيئة لدى السوريين، خاصة بعد اندلاع الثورة. ومن غير المعروف مثلاً لماذا نُقل رسلان “الحقوقي المتطوع في سلك الشرطة” إلى سلك المخابرات قبل الثورة بسنوات، وهي عملية لا تجري اعتباطاً، سواء لجهة دراسة الشخص المستهدف بالتعيين، أو لجهة وجود طامعين كثر بالنفوذ والجاه المتحصّلين من الخدمة ضمن عصب السلطة الأسدية. ربما تتوجب الإشارة إلى السمعة السيئة أيضاً لسلك الشرطة بين عموم السوريين، وإن في حقل خارج ملف القمع والإرهاب السياسيين، مما لا يُحسب للرجل واستعداداته الشخصية.
انشق رسلان في أواخر عام 2012، أي بعد ذيوع صيت فرع الخطيب كأحد أفرع المخابرات التي تُمارس فيها أقصى درجات الوحشية، وبعد تأكيد العديد من المُفرج عنهم على الاكتظاظ الشديد للفرع بالمعتقلين الذين يكابدون أقسى الظروف. كما بات معلوماً للجميع، سيظهر رسلان في وفد المعارضة إلى مباحثات جنيف في شباط 2014 كمستشار عسكري، من دون أن يقدّم بين تاريخ انشقاقه وتاريخ انضمامه إلى وفد المعارضة الحد الأدنى من المعلومات المنتظرة ممن كان في مثل موقعه. ما لم يتبرع بالإفصاح به رسلان شخصياً لم تُقدم عليه هيئات المعارضة التي توافقت على وجوده في الوفد، في حين لم تقصّر لاحقاً في فضح وجود ضابط مخابرات اسمه “موعد ناصر” ضمن قائمة الأسد لمباحثات اللجنة الدستورية، نُسب إليه أيضاً القيام باعتقال وتعذيب المتظاهرين.
في محكمة كوبلنز الألمانية، ظهر رسلان يوم الخميس الماضي كأول ضابط مخابرات سوري يخضع لمحاكمة، وهو حدث لطالما تمنى السوريون رؤيته على نحو مختلف، أي في إطار محاكم تشمل كافة المتورطين في أعمال القتل والاعتقال والتعذيب. بناء على ذلك، لن يصعب فهم انقسام المعارضين إزاء المحاكمة، بين مبتهج بها ومن يشعر بالمرارة لأن “ضحيتها” يُحسب لها على الأقل عدم الاستمرار في الإجرام، بينما كبار المجرمين يتابعون عملهم بلا رادع في سوريا ولا يلوح أفق منظور لمحاكمتهم سورياً أو دولياً.
علاوة على ذلك، لا يُستبعد استغلال محاكمة رسلان والمحاكمة المنتظرة لإسلام علوش في فرنسا من قبل مناصرين وأعوان للأسد في الغرب، بالتركيز على انتمائهم للمعارضة وشيطنة الأخيرة بالتساوي مع الأسد أو بما يفوقه. بل يذهب البعض في اتجاه مغاير معتبراً أن المحاكمة تتنافى مع العدالة الانتقالية المرجوة، إذ تعطي إشارة سلبية لمن يخدمون في قوات النظام ومخابراته، وتدفعهم إلى الاصطفاف معه بقوة أشد من قبل وهم يرون مستقبلهم خلف القضبان في أي تغيير سياسي.
ضمن بيئة مسيّسة بقوة، لا يقدّم المتحمسون لمحاكمة رسلان وأمثاله حججاً سوى الحجج الأخلاقية، وتلك التي تتوخى العدالة، أو ما يتيسر منها طالما بقيت غير متاحة. وقد يكون مفهوماً سعي شخصيات وهيئات حقوقية سورية معارضة لدرء شبهة التسييس أمام جهات دولية، إلا أنه غير مفهوم في بعض أوساط المعارضة على الأقل، هذا البعض الذي رأى محقاً عدم اكتراث المجتمع الدولي بأبسط حقوق الإنسان وهو يراقب المقتلة السورية.
نحن نظرياً أمام حدين غير متوفرين في محاكمة رسلان، أولهما كونها محاكمة تفتقر ضمن ولايتها إلى إطار أوسع، فهي ليست محكمة دولية خاصة بالجرائم المرتكبة في سوريا منذ عام 2011. ثانيهما أنها ليست محكمة سورية متزامنة مع تغيير سياسي ديموقراطي، ولا تتكيف تالياً مع متطلبات العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، سواء في أحكامها أو في تنفيذ الأحكام أو جعلها مع وقف التنفيذ. ذلك يقلل من عدالة المحاكمة الحالية، فأمثال رسلان خارج نطاق المحكمة، وهو نفسه لا يحظى أمامها بالأعذار المخففة التي قد توفرها العدالة الانتقالية المرافقة لمصالحة أهلية.
أهمية محاكمة رسلان هي في الواقع خارج ذلك الكلام المثالي عن تحقيق العدالة، وإن كان من المحتمل أن تخدمه في المحصلة. الأهمية هي في ما لم يتطوع هو بنفسه بالكشف عنه من قبل، أي في المعلومات التي سيُضطر إلى تقديمها أمام المحكمة. والمعلومات التي ستخضع لتدقيق قانوني ستكون لها قيمة أكبر من القيمة الإعلامية، لأنها شهادة على دوره الشخصي وعلى أدوار آخرين يمكن المطالبة بمحاكمتهم وإصدار أوامر بجلبهم، وإن تعذر القبض عليهم الآن. تجريم رسلان، إذا حكمت به المحكمة، قد يداوي جراح المدّعين عليه، لكن أهميته الأعم تأتي من الكشف أثناء المحاكمة عن البنية القمعية لسلطة الأسد، وعن آليات اتخاذ القرار بما في ذلك استخدام أنواع التعذيب الممنهجة بما يتيحه موقعه السابق من تماس مع قادة الصف الأول.
كانت أفضل نهاية له لو تبرع رسلان من تلقاء نفسه بالكشف عن دوره وأدوار زملائه السابقين، طالباً العفو من الضحايا ومن عموم السوريين، ومبدياً الاستعداد للخضوع لمحاكمة عادلة، أو على الأقل الاعتكاف عن أي عمل عام. لا يُقارن رسلان على هذا الصعيد بمنشقين آخرين لم يقدّموا توضيحات للسوريين عن الخدمات التي قدّموها للأسد، ولم يكونوا أيضاً في صلب أجهزته القمعية، لكن محاكمته تعيد تسليط الضوء على سلاسة انتقال البعض بين الجهتين وتسلم المناصب فيهما. إذا أُدين رسلان بالتهم المنسوبة إليه، أو ببعضها، سيبرز الفارق بينه وبين شريكه في قفص الاتهام إياد الغريب الذي تطوع للقضاء الألماني بمعلومات تدينه، وضمن هذا الحيز الشخصي قد تكون المحاكمة والعقوبة ضروريتين للتكفير عن انعدام المبادرة لدى الأول، والأخطر ربما عدم شعوره بالذنب.
أسوأ تبرير لرسلان يسوقه بعض المعارضين اليوم قد يتصل بعدم إحساسه بالذنب، وينص على أنه كان يضمر الرأفة بخلاف زملائه في الفرع، وكان يقوم بالتعذيب للتمويه على مشاعره الحقيقية! لشرح ما تعنيه الرأفة في مسالخ الأسد، وفي مسلخ فرع الخطيب تحديداً، أذكر الحادثة التالية: في صيف 2011 اتصل علاء طالباً مقابلتي، وهو صديق افتراضي على فايسبوك لم يبلغ العشرين بعد، وكنت أعرف أنه خرج من الاعتقال قبل مدة وجيزة. في بيتي، بعد التعارف الواقعي، سألته عما أقدّمه له كضيافة فطلب كأساً من الشاي. ما إن نظر إليها حتى قال: كأس مثل هذه كلّفتني التوقيع على ثلاث تهم في فرع الخطيب. ملخص قصة علاء أنه اعتقل على خلفية المشاركة في المظاهرات، وربما ساعدت صلات عائلته الموالية في تنجيته من أنواع التعذيب التي سمع بها هناك. أقسى ما تعرض له ربط يديه إلى السقف وهو واقف وإبقاؤه لثلاثة أيام هكذا، ثم اقتياده إلى مكتب الضابط المسؤول عن التحقيق، والذي لن تفوته نظرة علاء المتعطشة إلى الكرسي الفارغ أمام مكتبه، فعرض عليه الجلوس على الكرسي لنصف ساعة مع كأس من الشاي مقابل الإقرار بالتهم الملفقة المنسوبة إليه كشرط للإفراج عنه لاحقاً. يا لها من رأفة!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت