بعد ضم شبه جزيرة القرم، والحملة العسكرية في سوريا، وتوسيع شبكة «فاغنر» في أفريقيا، جرى تكوين رأي حول ضعف القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية الروسية. وبات يُنظر إلى مغامرات الكرملين في صراعات الموازنة المنخفضة نسبياً على أنها مورد لا غنى عنه لإضفاء الشرعية على سلطة فلاديمير بوتين.
لكن منطق وسائل الإعلام هذا، حيث تستخدم مصطلحات «عقيدة جيراسيموف» أو «الحروب المختلطة» على نطاق واسع، خاطئ شأن المصطلحات نفسها. فهذه العقيدة لا وجود لها، وكل الحروب في تاريخ العالم كانت دائماً مختلطة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن خط الكرملين قد تغير بالفعل، ولا سيما منهجه تجاه الاحتواء الاستراتيجي السياسي والعسكري. من ناحية، كان هذا بسبب تحول النظرة العالمية للرئيس بوتين نفسه، الذي بدأ ينظر إلى نفسه عقب نشوة القرم كشخصية تاريخية قادرة على تنفيذ مهام جيوسياسية ناجحة. ومن ناحية أخرى، تأثر ذلك بالإجراءات العسكرية والسياسية لمكافحة الأزمة التي اتخذتها موسكو لاحتواء عواقب نشاطها في شبه جزيرة القرم ودونباس.
في نهاية عام 2014، جرى إدخال مصطلح «الردع غير النووي» الغامض، وبالتالي الملائم في العقيدة العسكرية الرسمية الروسية المحدثة. وعلى الرغم من أن العسكريين والدبلوماسيين الروس يفسرونها الآن لصالحهم، فإن هذا كان بمثابة تغيير مهم في الوثيقة المفاهيمية. وللمرة الأولى، أعلنت القيادة العسكرية الروسية أنها ستسعى إلى حرمان العدو من ميزة من خلال عدم الاعتماد على الأسلحة النووية التكتيكية والاستراتيجية.
العنصر الأساسي للردع التقليدي هو الأسلحة عالية الدقة، بما في ذلك مجموعة واسعة من الصواريخ، والتي صقلها الجيش بعد ذلك بناءً على التجربة في سوريا. لكن ليس هذا فقط. ففي عام 2019، أوضحت وزارة الدفاع الروسية للمرة الأولى أنها تفضل استراتيجية دفاعية نشطة تتضمن أيضاً أساليب غير عسكرية للفوز بالمبادرة الاستراتيجية. وتم الاعتراف رسمياً بأن «العملية الإنسانية» هي شكل جديد من أشكال الاستخدام العسكري التي تجمع بين الإجراءات لسحب المدنيين في الوقت نفسه من منطقة القتال وقمع المقاومة. وعلى الرغم من عدم تحدث أحد رسمياً عن الشركات العسكرية الخاصة، فقد كان واضحاً لجميع الخبراء أن المرتزقة هم أيضاً عنصر مهم في فهم موسكو لأساليب الحرب غير المتكافئة.
من الواضح أن الكرملين، ومن دون أي وثائق تنظيمية، كان من الممكن أن يتدخل في الحرب الأهلية في سوريا ويشترك في أعمال شغب بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، ساعياً إلى نوع من الضمانات من حلف شمال الأطلسي (الناتو). الأهم من أي شيء، لم تمنع النسخة السابقة من العقيدة العسكرية، موسكو من ضم شبه جزيرة القرم، لكن العقيدة العسكرية وعدد من الوثائق الأخرى هي نتيجة الإدراك الذاتي للنخبة الحاكمة للمصالح الوطنية القائمة بشكل موضوعي.
نصّت العقيدة بوضوح على أن الهدف في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي هو الحوار على قدم المساواة. وهذا بالضبط ما سعى إليه الكرملين بالتدخل في حربي سوريا وليبيا للتغلب على عزلة العقوبات. وهذا ما يفعله الآن بالقرب من حدود بولندا وأوكرانيا وبإصرار مجنون لفرض رؤيته لهيكلية أمنية أوروبية على «الناتو». فالنجاحات السابقة في الجمع بين الحربين في سوريا ودونباس تلهم موسكو لاتخاذ خطوات جديدة لإصدار الإنذارات ليس فقط لخصومها التقليديين، بل أيضاً لشركائها مثل بيلاروسيا وكازاخستان.
هل هناك علاقة للكرملين بين الملفين السوري والأوكراني؟ هناك آراء بأن الطيران الروسي يزيد من حدة الضربات على إدلب، اعتماداً على درجة تورط تركيا في الملف الأوكراني. وثمة سابقة لتوحيد مسارح عدة للعمليات العسكرية إبان حرب قره باغ عندما قصف الجانب الروسي بمصادفة غريبة مجموعات معارضة في سوريا ضالعة في الصراع في جنوب القوقاز. وعلى الرغم من ذلك، هناك حجج ضد هذا الطرح. فالقيادة الروسية في سوريا تعمل وفقاً لمنطقها الخاص، ولا يحتاج الكرملين إلى التوصل إلى مجموعات وإرسال إشارات لا لبس فيها إلى أنقرة، التي زوّدت كييف بالفعل بطائرات من دون طيار.
شيء آخر هو أنه فيما يخص التخطيط العسكري، فإن القرم وسوريا مرتبطان لوجيستياً، لكن الشيء الرئيسي هو أن القواعد الروسية في طرطوس وحميميم هي عنصر أساسي في الدفاع عن شبه الجزيرة والحدود الغربية للبلاد. ويقلل الاستخدام النشط لهذه المرافق من منطقة تمركز الأسطول السادس للولايات المتحدة لضربة افتراضية من شرق البحر الأبيض المتوسط. بالنظر إلى فهم موسكو لمهام الدفاع النشط، فإن الكرملين يعمل بشكل منهجي على إنشاء مركز متقدم في حميميم لنقل الأفراد العسكريين والمرتزقة إلى أفريقيا وفنزويلا، وتثبيت قاذفات قنابل نووية من طراز «Tu – 22M3» ومقاتلات «MiG – 31K» بدقة عالية وصواريخ بعيدة المدى.
فتح إنهاء معاهدة القوات النووية متوسطة المدى الباب لروسيا لنشر أنظمة أرضية عالية الدقة في سوريا بسرعة إلى حد ما إذا تم تكييف صواريخ كروز طويلة المدى المضادة للسفن مع الأنظمة الأرضية. ويواصل الجيش الروسي أيضاً تحويل منشأة طرطوس إلى قاعدة كاملة. وبقدر ما هو معروف، وفي أوقات مختلفة، قامت وزارة الدفاع بنشر «حيوانات قتالية » في مياه طرطوس لإجراء تدريبات لمكافحة التخريب. في السابق، وبسبب التكلفة العالية، كانت الولايات المتحدة هي الوحيدة التي كانت قادرة على إحضار الدلافين القتالية إلى البحر الأسود لإجراء التدريبات.
وبالتالي، فإن التوسع المتعمد للتأثير الروسي مقترناً بأساليب الحرب غير التقليدية تم تحديده في الوثيقة المفاهيمية، والتي تستبعد بحد ذاتها التدخل الفوضوي لتحقيق ميزة تكتيكية. ومع ذلك، لا ينبغي للمرء أن يبالغ في تقدير البصيرة الاستراتيجية للكرملين وأفق التخطيط العسكري الروسي. على سبيل المثال، أصبحت موسكو نفسها رهينة للأنشطة الموسعة لمجموعة «فاغنر »؛ لأنها غير قادرة على السعي للحصول على ضمانات دون تدخل القوة «الدبلوماسية الموازية».
في الواقع، فإن توقف بناء القاعدة في السودان وعدم اليقين بشأن مستقبلها يرجع إلى حقيقة أن المفاوضات حول المنشأة العسكرية الرسمية كان يقودها في البداية أشخاص مرتبطون بـ«مجموعة فاغنر». بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الخرطوم إلى الاستثمار، وليس العسكرة المثيرة للجدل؛ مما يعني خلق تهديدات إضافية للولايات المتحدة وحلفائها العرب.
وضع مشابه يميز ليبيا، حيث إن التسوية السياسية تعادل فعلياً المرتزقة السودانيين والروس، الذين يتعين عليهم مغادرة البلاد. وعلى الأرجح، تود وزارة الدفاع أن يكون لديها منشآت هنا؛ إذ ستسمح لها، جنباً إلى جنب مع التواجد في حميميم، ببسط قوتها في منطقة قناة السويس. لكن لإضفاء الطابع المؤسسي على وجودها العسكري، ستحتاج موسكو على الأقل إلى الدخول في اتفاقيات رسمية أحادية الجانب مع السلطات في شرق ليبيا حتى يتمكن الجيش من العمل رسمياً مع مدربين مدنيين.
بشكل عام، يحاول الكرملين الاستفادة القصوى من رأس الجسر الذي تم إنشاؤه في سوريا لتوسيع نطاق العمليات وإزعاج «الناتو ». لدى المرء انطباع بأن موسكو قد استسلمت بالفعل لحقيقة أنه بسبب إصرار النظام السوري، فإنه لا يمكنه تقليد الإصلاحات السياسية وجذب المستثمرين لإعادة إعمار سوريا؛ لذلك يعتقد الكرملين أن فوائد الوجود العسكري لا تزال قائمة وتتخطى كل الخسائر التي تلحق بالسمعة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت