في الاشهر الاولى من الثورة السورية، توسل كثيرون من السوريين والعرب والاوروبيين ادارة الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما، توفير الحماية للمدنيين السوريين من بطش نظام الرئيس بشار الاسد الذي كان قد شرع في إستخدام الطيران الحربي والصواريخ المدمرة لضرب المناطق الثائرة وهدم عمرانها على رؤوس السكان. وطرحت أفكار سبق أن إختبرت في شمال العراق وفي يوغوسلافيا السابقة، أهمها فرض الحظر الجوي على الاجواء السورية، أو تزويد الثوار بصواريخ محمولة مضادة للطائرات، أو السماح بحصولهم على مثل هذه الصواريخ، لاسيما صواريخ ستينغر الاميركية الشهيرة التي إستخدمها الثوار الافغان ضد القوات السوفياتية.
لم تلقَ جميع تلك التوسلات أذناً صاغية من أوباما، الذي لم يؤمن يوماً بفرص نجاح ثورة يقودها أطباء ومهندسون وصيادلة ومدرسون ونقابيون، ضد نظام بالغ القوة والقسوة، ولم يشعر بالحاجة الى تورط أميركي في حرب أهلية محدودة بالمقارنة مع حرب رواندا-وبوروندي التي سقط فيها نحو مليون ونصف مليون إنسان، من دون أن يستدعي ذلك تدخلاً أميركياً. فكانت الخلاصة الأولى التي إستنتجها نظام الاسد، والتي لا تزال سارية حتى اليوم، هي أن أميركا لن تنتصر للمعارضة وبالتالي لا تسهم في إسقاط النظام، كما فعلت في مصر حيث إنتهى الامر الى فضيحة.
اليوم، وبعد مرور نحو أربع سنوات على خروج أوباما من الحكم، ومجيء نقيضه التام دونالد ترامب الى الرئاسة، إكتشفت أميركا فجأة الحاجة الى توفير الحماية للمدنيين السوريين، من الطيران الحربي، السوري والروسي، الذي يكاد يعلن أنه أنجز المهمة على أكمل وجه، ولم يبق لديه من مستشفيات ومستوصفات وأفران ومدارس ومخيمات نازحين وخوذ بيضاء، مرشحة للغارات الجوية، سوى في إدلب وريفها وأنحاء متفرقة من الشمال السوري.
“قانون قيصر” الذي تأخر إصداره تسع سنوات والذي يزعم أن جوهره حماية المدنيين السوريين، لا يرقى الى مستوى حظر الطيران الحربي، ولا يطمح الى توفير غطاء جوي لأي من المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام. هو يستخدم سلاح العقوبات المثير للجدل والشك من أجل منع المزيد من الغارات الجوية السورية والروسية، على المدنيين، كما جاء في نصه، ومن أجل ضمان وصول المساعدات الانسانية الدولية الى المحتاجين داخل سوريا.
لا يمكن التسليم بأن”قانون قيصر” صدر بدافع إنساني أو أخلاقي أميركي مستجد، أو بحرص أميركي مستحدث على وقف المذبحة السورية الكبرى. قد يكون نوعاً من المزايدة المألوفة من جانب ترامب على سلفه أوباما. الجوهر الأهم لذلك القانون الذي بدأ تنفيذه بالأمس، هو أنه مؤشر دقيق على أن الحوار الاميركي الروسي حول سوريا دخل في مرحلة متقدمة، يستخدم فيها الجانبان مختلف أوراقهما للتأثير على مجرياته وحصيلته النهائية. ولن يكون من المستبعد ان تصبح أرواح المدنيين السوريين التي يفترض حمايتها، ضحية الطيران الحربي الاميركي نفسه، إذا دعت الحاجة. ولن يكون الطيارون الاميركيون أرحم من الطيارين الروس..بدليل ما جرى في الرقة قبل عامين، وما يجري حتى اليوم في مناطق مختلفة من شمال شرق سوريا.
“قانون قيصر” ليس سوى دليلٍ على أن الحوار الاميركي الروسي جديٌ. وهو ينطلق من قاعدة رئيسية مفادها أن واشنطن لا تعمل على إخراج القوات الروسية من سوريا أو إنهاء النفوذ الروسي المستمر في سوريا منذ عقود طويلة، بخلاف ما صرح به قل اسبوعين المسؤول الاميركي الأخرق، ديفيد شينكر، ما إضطر وزارة الخارجية الاميركية الى النفي والتوضيح. هدف أميركا من الحوار تسريع خروج إيران ومليشياتها من سوريا، للحؤول دون صدام إيراني إسرائيلي مباشر. وطموحها هو إقناع الروس بالتخلي عن “عميلهم السيء” بشار الاسد، حتى ولو كان ذلك في صناديق الاقتراع او في عملية سياسية تدريجية..
جوهر “قانون قيصر” شطب بشار من الحوار لأنه مفتاح التوسع الايراني في سوريا ولبنان. توغله في الدم السوري يمنع إعادة تأهيله أو تغيير سلوكه.. أو فصله عن الراعي الايراني لنظامه ولحربه. وهو ما لا يعارضه الروس في الأصل، لكنهم يريدون كما يبدو حتى الآن ثمناً أكبر من التسليم الاميركي بوجودهم ونفوذهم في سوريا ، وحدها.
لن يُصرف “قانون قيصر” إلا على طاولة الحوار الاميركي الروسي المفتوحة..التي يتولى “الصرّافون” السوريون (واللبنانيون)، نقل وقائعها اليومية الى الجمهور، بطريقة مشوقة، وموجعة في آن.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت