كثيرة هي الدراسات التي تتحدث عن بندقية كلاشينكوف AK-47، وكيف غيرت وجه الحروب، وعدد ضحاياها، واقتصادها، ودورها السياسي، ورمزيتها ومزاياها التي جعلتها كذلك؛ ويبدو أن لدينا اليوم سلاحاً مشابهاً في قدرته على توجيه مسار التاريخ ومصائر مجموعات بشرية كبيرة، هي الطائرات بلا طيار أو المسيّرات.
مثل كلاشينكوف، تمتاز الطائرات المسيّرة برخص ثمنها وسهولة الحصول عليها، وبساطة استخدامها، وقدرتها الثورية على تغيير موازين الصراع، إذ يمكن شراء المسيّرة بأقل من مئة دولار من متاجر عادية، ويمكن لمهندس أو فني متخصص أن يصنعها أو يعدّلها لتصبح سلاحاً قاتلاً انطلاقاً من مكونات متوافرة في الأسواق، وهكذا تصبح لدى الجهة التي تمتلكها “قوة جوية” بكل بساطة.
سباق صناعة المسيّرات الجوية، دولي، لكنه أيضاً شرق أوسطي بامتياز. فإسرائيل تعد الدولة الثانية عالمياً، بعد الولايات المتحدة الأميركية، من حيث امتلاكها للتقنيات والقدرات في هذا المجال، وهي تصدّر إنتاجها المتقدم جداً لدول في أوروبا الغربية والهند وغيرها. تليها تركيا، التي أصبحت طائراتها المسيرة أحد رموزها القومية بعدما حصدت نتائج لافتة في سوريا وليبيا وأذريبجان والعراق. أما إيران، فقد اتخذت من الطيران المسير أداة للضغط على مجمل الإقليم من خلال تصدير هذه الطائرات أو التكنولوجيا المتعلقة بها إلى حلفائها من دول وجماعات غير حكومية. ودخلت كل من السعودية والإمارات، ميدان التصنيع بمعونة صينية، مع استحواذ عالٍ وسريع على طرازات حديثة جداً من هذا الطائرات.
لقد أسفر امتناع الولايات المتحدة عن تصدير هذه التقنية لأي من دول العالم، والحظر الصارم من قبل إسرائيل على توريد هذه التقنيات لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى طلب متزايد في أسواق ثانوية مثل الصين. كما أرغم دولاً وجهات فاعلة عديدة على تطوير قدراتها بنفسها، وبالمحصلة ازدهرت صناعة هذا السلاح بسرعة ومن دون ضبط، على النحو الذي انتشرت به بندقية كلاشينكوف.
ما زال إنتاج واستخدام طائرات الدرون غير مضبوط بلوائح أو قوانين أو اتفاقيات دولية، وحتى لو ظهر في المدى المنظور شيء من هذا القبيل، فإنه لن يحدّ من لجوء كافة القوى إلى الاستخدام غير المشروع لهذه الآلات التي توفر مزايا التملص وما يسمّى في الأدبيات السياسية اليوم بـ”الإنكار المعقول” للمسؤولية عن أعمال تلك الطائرات، من خلال صعوبة تحديد ملكيتها أو تابعيتها، على سبيل المثال، كشف خبير غربي، فحص بعض طائرات الحوثيين بلا طيار، عن “كونها مصممة وفق نماذج إيرانية، لكن الأسلاك من الصين، والكاميرات الرقمية من الشركات المصنعة العالمية، والمحركات من مجموعة متنوعة من الشركات الأوروبية، ومن المحتمل أن يكون مقاتلو الحوثي أنفسهم قد صنعوا عددًا من الأجزاء، وربما تم نسخها من أجزاء أصلية من مكان آخر”.
بموازاة حمى الإنتاج، تنخرط شركات التصنيع العسكري اليوم في سباق لابتكار مضادات للطائرات بلا طيار، لكن تلك المنتجات مكلفة للغاية، ولا تغطي كافة أنواع المخاطر التي تهدد بها هذه المركبات غير المأهولة صغيرة الحجم فائقة القدرات. ومن الناحية العسكرية البحتة، لا طريقة مثالية للحد من تلك المخاطر سوى بالردع المتبادل، فإذا استخدم طرف طائرة مسيرة، لن يكون في الإمكان مواجهته سوى بإرسال المزيد من الطائرات المسيرة نحوه لتلحق به خسائر مماثلة أو أكثر، وينبئ سباق التسلح بالدرون في منطقتنا بأن مخططي الدفاع الاستراتيجيين ينتهجون هذه العقيدة.
سأل صحافي، ذات مرة، ميخائيل كلاشينكوف، مبتكر السلاح الشهير، عما إذا كان يستطيع أن ينام ليلاً فيما توالي بندقيته حصد الأرواح حول العالم، وقتلت على نحو مؤكد أكثر بكثير مما قتلته القنابل النووية الأميركية، فأجاب: “أنام جيداً، يقع اللوم على السياسيين لفشلهم في التوصل إلى اتفاق واللجوء إلى العنف”. يبدو ذلك صحيحاً، فالحرب ليست فقط السياسة بوسائل أخرى، هي أيضاً أكثر اشكال السياسة بدائية، وبما أن الساسة والسياسة في عالمنا المشرقي ما زالت فاشلة، فعلينا أن نكون متشائمين بما فيه الكفاية لتوقع أسراب من الطائرات المسيرة من مختلف الأحجام والإمكانات، التي تجعل أفق الغد في الشرق الأوسط معتماً ودامس الظلام، ومن دون أن يقلل ذلك بطبيعة الحال من عدد البنادق على الأرض. ويبدو أن معامل كلاشينكوف المزدهرة تشاركنا هذا التشاؤم، فهي قد افتتحت خط إنتاج جديداً لديها، مخصصاً لإنتاج الطائرات المسيرة الصغيرة، الخفيفة، الفعالة، ورخيصة الثمن.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت