ما إن غزا فيروس كورونا العالم قادماً من ووهان الصينية، حتى دخل الجميع في صدمة. عدّو قديم بشكل جديد، لا معلومات كافية عنه، ولا وسائل حماية ضدّه! تباينت ردود الأفعال الأوّلية للأنظمة والحكومات، واتسمت بالعشوائية والفردية، لكنّها اضطرت في نهاية المطاف إلى اتخاذ إجراءات قاسية -وإن بنسب متفاوتة- في محاولة لكبح جماح انتشار الفيروس وتخفيف الضغط على القطاع الصحي وكبح جماح انتشار الوباء ووضعه تحت السيطرة النسبية.
لكن وباستثناء الصين التي أعلنت أنّها لم تسجّل أي حالات إصابة محلّية جديدة نتيجة احتوائها للفيروس، لا تزال باقي دول العالم غارقة في كيفية التعامل مع هذا الخطر الداهم الذي يصيب أعدادا متزايدة بسرعة مهولة حاصداً أرواح الآلاف من البشر. إذا ما صح الزعم الصيني، فهذا يعني أنّ بكّين تجاوزت الأسوأ في وقت بدأت فيه الدول الأخرى مرحلة الاستنزاف البشري والمادّي للتو.
ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنّ الصين باتت تتمتّع بأفضلية على باقي العالم وهو الأمر الذي يذكرنا بالكيفية التي استطاعت فيها الاستفادة من أزمات كبرى ضربت العالم خلال الأعوام الثلاثين الماضية لعل أبرزها الأزمة الاقتصادية العالمية عام ٢٠٠٨ والتي سرّعت بشكل غير مسبوق من الصعود الصيني اقتصادياً وعسكرياً على المستوى الدولي. خلال العقد الماضي، كان النظام العالمي يتآكل بشكل متزايد، ولعل الأزمة السورية هي شاهد حيّ على ذلك. أمّا اليوم، فمن المتوقع أن يسرّع الفيروس من وتيرة هذا التآكل وربما يساهم أيضاً في إحداث تغيير جوهري في موقع ودور العديد من الدول بما في ذلك الدول الكبرى.
الاتحاد الأوروبي اليوم في أسوأ موقف له على الإطلاق بعد أنّ فضّلت العديد من دوله حماية نفسها أولاً كفرنسا وألمانيا مما دفع الدول التي تعاني الآن إلى طلب المساعدة ممّن يفترض به أن يكون العدو أو الخصم في أفضل الأحوال. العديد من الدول الأوروبية اليوم ستعتمد على الصين وروسيا وكوبا وفنزويلاً لمساعدتها على تجاوز محنة تفشي وباء كوفيد١٩. لا يوجد أدنى شك في أنّ الصين وروسيا ستستفيد من هذه الفرصة التي تضع علامات استفهام كبيرة حول مفهوم الوحدة الأوروبية ومصيرها لتعزّز من نفوذها السياسي والاقتصادي في القارة العجوز، وربما تساهم في تفكّك الاتحاد الأوروبي.
الولايات المتّحدة الآن في صراع مع الوقت لتأمين ما يمكن تأمينه في المجال الصحي بعد أن بدا أنّها مكشوفة تماماً أمام مخاطر وتهديدات من هذا النوع. هناك حديث عن تخصيص تريليون دولار للمساعدة على التعامل مع تداعيات انتشار الفيروس في الولايات المتّحدة بشكل سريع. خلال العقدين الماضيين، شهد موقع ودور الولايات المتحدة القيادي للعالم تراجعاً ملحوظاً. صحيح أنّها لا تزال القوّة العسكرية الكبرى في العالم، لكنها لم تعد سياسياً واقتصادياً، ولربما سيساعد الفيروس على ترسيخ هذا الواقع ويتسبب بدفعها إلى الخلف مفسحاً المجال لقوى شمولية كالصين لأن تعزّز من مكانتها المستقبلية على المسرح الدولي.
وبينما يغرق العالم في أزمة صحّية يرافقها أزمة اقتصادية تطيح بكبرى الشركات والقطاعات وتتسبب بخسارة الملايين من البشر لوظائفهم وربما إفلاس العديد من الدول حول العالم، ستكون الصين بمثابة المصنع العالمي الجاهز للاستثمار في الأزمة، وقد تتدخل لمساعدة العديد منها بشكل مدروس وممنهج يخدم أجندتها السياسية والاقتصادية وينتهي بها المطاف في السيطرة عليها. لدينا الكثير من الأمثلة على هذا الدور الصيني حتى في مرحلة ما قبل وباء كوفيد١٩، فما بالكم بما سيكون عليه الوضع بعده؟
الأنظمة الديمقراطية في أزمة جرّاء بيروقراطيتها الشديدة في حالات الطوارئ، واستمرار الصراع السياسي الداخلي فيها حتى في وقت الأزمات، وافتقارها إلى القوة القاهرة لتحريك المجتمع باتجاه واحد في المحن، ومن دون شك سيكون لهذا الأمر تأثيره على المستوى الدولي. من المتوقع أن تزداد في مرحلة ما بعد الوباء التوجهات اليمينة والعنصرية والقومية في عديد من البلدان حول العالم. كما قد تفضّل دول الخروج من التكتّلات الجماعية التي تتواجد فيها على اعتبار أنّها لم تستفد منها في الوقت الذي كانت فيه في أمس الحاجة إليها.
سيكون هناك اختلالات اقتصادية، حيث من المنتظر أن تصعد بعض الدول المحظوظة اقتصاديا بشكل سريع، فيما تتراجع دول أخرى عن مراكزها السابقة. الفيروس قد يطيح بعدد من الحكومات حول العالم كذلك. مصير ترامب وميركل وماكرون وجونسون وغيرهم على المحك، في الوقت الذي سيعزّز فيه السلطويون الشموليون من مواقعهم كتشي بينغ وفلاديمير بوتين وغيرهما. الديمغرافيا قد تلعب دورها أيضاً إيجاباً أو سلباً في مرحلة ما بعد الوباء، لاسيما بالنسبة إلى القارة العجوز. أحد أسباب التكاليف البشرية الباهظة التي تدفعها إيطاليا اليوم هي أنّها واحدة من بين دول قليلة في العالم تبلغ نسبة من يزيد عن ٦٥ عاماً فيها عن ٢١٪ أي حوالي ربع سكان البلاد.
إذا ما صحّت بعض هذه الاستنتاجات فسنكون أمام مشكلة أخرى بعد انجلاء الغبار عن المعركة مع كوفيد١٩، حتى ذلك الحين لا نملك إلا محاولة التقليل من مخاطر الفيروس من خلال الاعتكاف والتعامل بحذر مع احتمال انتقاله وحماية المسنّين، دمتم بأمان.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت