لدى وصوله إلى أنقرة أعلن جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الخاص بسوريا، عن تطورات مثيرة ستحدث في الملف السوري. ثم في اجتماعه لاحقاً يوم الأربعاء الماضي مع قيادة المعارضة الممثلة بالائتلاف، لم يرشح ما هو مثير باستثناء ذلك الجدل حول الموضوع الكردي، إذ نُسب إلى جيفري وجويل ريبورن “الذي سيخلفه في المنصب” استياؤهما من تركيز الوفد المعارض على تحالف واشنطن مع قسد، فيما بدا للجانب الأمريكي أنه أكثر من التركيز على مواجهة الأسد فأبدى ملاحظة بهذا المعنى، ليعرب رئيس وفد المعارضة نصر الحريري عن خشيته من وصول معارضته إلى دمشق من دون تمكنها من الدخول إلى الحسكة!
ربما يظن صاحب العبارة الأخيرة أنه أفحم الجانب الأمريكي ببلاغته، بلا اكتراث بكونها فائضة عن الموضوع الذي أتى الوفد الأمريكي لمناقشته، وينصب أساساً على التصور الأمريكي للضغط على بشار الأسد. غني عن القول أن الجلسة غير مخصصة لمناقشة التحالف الأمريكي مع قسد، وأن الخطوات التي تتخذها الإدارة في ما خص ذلك التحالف تنبع من الحسابات الأمريكية العامة والإقليمية، ولم ولن تتوقف يوماً عند شكاوى المعارضة.
القول أن وفد المعارضة عبّر عن المخاوف التركية في الشق الكردي، أكثر من دوره المفترض في التعبير عن تطلعات السوريين، فيه شيء من الصحة لكن مع الاستدراك بأن فيه قدراً أكبر من التطوع المبتذل، فالقيادة التركية لها ما يكفي من قنوات الاتصال العلنية وغير العلنية مع واشنطن، ولا تحتاج وسيطاً أو داعماً من قياس الوفد المعارض. على هذا الصعيد أتت الرسالة الأقوى من جويل ريبورن، بتأكيده على التحالف الأمريكي-التركي، وعلى دعم بلاده أنقرة في ما يتعلق بإدلب المهدَّدة بهجوم جديد. التأكيد يكتسب أهميته بصدوره عن المبعوث الأمريكي الجديد، لأن سلفه جيفري كان محسوباً على أصدقاء أنقرة، ويُراد القول أن التغيير لا يستهدف التعاون معها.
في ما يتصل بالتحالف الأمريكي مع قسد، من الوهم المراهنة على تفكيكه إلا بانتهاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا. حدوث تغييرات أصغر، شأنٌ آخر، فمن الملاحظ مؤخراً اهتمام الجانب الأمريكي بإبعاد الكوادر الكردية التركية عن التحكم في الإدارة الذاتية، واهتمامه بإنشاء إطار يرضي نسبياً مكونات منطقة الجزيرة. في الوقت نفسه، أعطت إدارة ترامب إشارات لبقائها في المنطقة، بعد إعلان ترامب أكثر من مرة عن نيته سحب قواته، وحسبما هو معلن لا ينوي الديموقراطيون “في حال انتخاب بايدن” سحب قواتهم.
السؤال الذي على المعارضة توجيهه والإجابة عنه بشفافية هو: هل الوجود الأمريكي بشكله الحالي، أي بكل مآخذها عليه، هو لصالحها أم لا؟ بصياغة أخرى، لنتخيّلْ ما سيكون عليه الدور الأمريكي إذا تم سحب القوات، مع التنويه بأن اتخاذ ذلك الإجراء يتضمن حتماً التراجع في الاهتمام الأمريكي. أو لننظرْ إلى القوى المتلهفة إلى رحيل القوات الأمريكية، وفي المقدمة منها موسكو وطهران لتعلنا انتصارهما التام لحظة رحيلها. لا داعي بالطبع للحديث عن مصير “العملية السلمية” التي ارتضتها المعارضة، فآنذاك لن تتحرج موسكو من الإجهاز عليها نهائياً والقول أنه لم يعد من مبرر لوجودها أو للقرارات الدولية التي نصت عليه.
الواقع أن الكماشة الأمريكية صارت تعمل بذراعين، قانون قيصر الذي يحاصر الأسد خارجياً، والوجود العسكري الذي يمنعه داخلياً من إعلان النصر ومن العائدات الاقتصادية المتنوعة لمنطقة الجزيرة. الكماشة الأمريكية لا تخنق الأسد وحده، بل تمنع حلفاءه من التنعم بثمار تدخلهم، فهي تحصر انتصاراتهم في بُعدها العسكري المحض، وتحمّلهم تكاليف المحافظة على سلطة منهارة. هذه المعطيات منحت جيمس جيفري الثقة قبل أشهر كي يصرّح أن مهمته هي إغراق الروس في المستنقع السوري، وهو بالطبع لا يفعل ذلك كرمى للسوريين أو للمعارضة أو لقسد. هذه هي السياسة الأمريكية، أما ترويج تمنيات وأوهام مغايرة من قبل المعارضين فيلزمه دليل من نوع “كيف نستأجر البيت الأبيض”.
قد نكون غالبيتنا في موقع انتقاد السياسات الأمريكية في سوريا، وثمة من يرى أنها كانت أقوى داعم لبقاء بشار. ولعل بعض جوانب انتقاد السياسة الأمريكية في سوريا تذكّر بعقود من انتقادها إزاء القضية الفلسطينية، فنحن غاضبون منها، وفي الوقت نفسه نسلّم بقدرتها الهائلة على التأثير، ولا نبذل جهداً ملموساً تجاه مراكز صنع القرار، ونشعر بالنقمة لأن التغيير المشتهى لا يأتي. ذلك الغضب مبرَّر لعموم أصحاب القضية السورية وأصدقائها، باستثناء الذين يقتضي عملهم في السياسة التعامل مع أسوأ الظروف ومحاولة التقليل من سوئها، إذا لم يكن ممكناً تحاشيه.
ذهب أوباما وأتى ترامب وقد يذهب ليأتي بايدن، بينما “على سبيل المثال ليس إلا” بقي نصر الحريري يتنقل في المناصب الرئيسة للمعارضة. كان من فوائد بقائه، لو أحسنا الظن، اكتسابه خبرة بالتعامل مع المسؤولين الأمريكيين عطفاً على اللقاءات التي جمعته بهم، لكن مجريات اللقاء الأخير وهدر الوقت خارج الموضوع الأساسي للّقاء لا يوحيان باكتساب تلك الخبرة. في المقابل، لا يخرج عن السياق الأساسي أن نسترجع نصيحة جيفري للمعارضة قبل أشهر بالانتقال إلى أوروبا توخياً لمزيد من الاستقلالية، مع التذكير بأنه شخصياً يُحسب على أنقرة ضمن إدارة ترامب.
خلال سنوات قدّمت المعارضة لواشنطن ما يكفي لتستهتر بها، فهي إما كانت تحت الوصاية التامة لقوى إقليمية تولت التواصل مع واشنطن باسمها، أو لم تقدّم في اللقاءات المباشرة ما هو جدير بالاحترام. بعض هذه اللقاءات أُهدر بإنشاء قدمه معارضون عن أحقية الثورة السورية كأن من يحاورهم لا يعرف الواقع أو يبني مواقفه على الحق، وإلى بعضها حملت وفود المعارضة الحد الأقصى من مطالبها وكأنها ذاهبة للإمساك بالخاتم السحري، وخرج معارضون من لقاءات وهم غير مصدّقين أقوال المسؤولين الأمريكان الذين شرحوا لهم للتو عدم استعداد بلادهم للتدخل على النحو الذي يتمنونه، إذ لا بد أن في الأمر مراوغة ولا بد أن يأتي التدخل المرتجى لاحقاً، لذا من الأفضل إبقاء تلك الأقوال طي الكتمان. في الفترة ذاتها، كانت المعارضة تستهلك رصيدها المحلي ليقتصر على الطامعين في مناصبها، وإذا ابتسم لها الحظ بالوصول إلى دمشق “كمدينة ترمز إلى السلطة” فعليها أن تكون ممتنة للقدَر الأمريكي المفاجئ، أما الوصول إلى المدن الأخرى بدءاً من درعا وصولاً إلى الحسكة فيتطلب دأباً من نوع مختلف.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت