كأنها أخبار تأتي من عالم اللامعقول؛ استقبالات شعبية على الحدود، أرز يُنثر على صهاريج المازوت الداخلة، رصاص يُطلق في الهواء ابتهاجاً، وقذيفة آر بي جي على سبيل التفخيم ربما! الصهاريج تلاقي بأبواقها المحتفلين، وسائقوها هم أبطال اليوم، وتحت عجلات صهاريجهم ذابت الحدود. كان ينقص أن يُودَّعوا باحتفال مشابه من الجهة التي عبروا منها، ليزيد ذلك من رمزية الأمر كله إذ يُحتفى بهم في مدينة “القصير” التي اقتحمها مقاتلو حزب الله كفاتحة لانتصاراته على طريق القدس، ولعلها كانت فرصة ليرى عبر الإعلام أهالي القصير المهجّرين مدينتَهم، وليفتشوا في الصور عن بيوت لهم أو أراضٍ أو ذكريات. من جهة أخرى ستكون رسالة للبنانيين: انظروا كم هي مفيدة حربنا في سوريا، فمن الطريق نفسه أتينا لكم بالمازوت، وقريباً سنأتي لكم عبره بالبنزين.
ثم يصعب لوم أولئك المحتفلين بصهاريج المازوت، وغيرهم أكثر بكثير من المبتهجين بقدومها من دون احتفال أو إعلان. حتى خصوم الحزب سيصعب عليهم الوقوف ضد “انتصار المازوت” هذا، ففي الخلفية هناك الحاجة العامة الماسّة إليه وهي لا تستثني جمهورهم، ثمة مثلاً مستشفيات قد تتوقف عن العمل بسبب فقدانه، وقد تُشلّ حركة البلد تماماً بعدما صار جزء كبير منها متعلقاً بدأب الباحثين عن المحروقات. إذاً، ليأتِ المازوت كيفما كان، ومن أي طريق كان، ليأتِ ولو أتى به الشيطان نفسه.
ولمن لا يرتدع عن النقد، هناك بالمرصاد العبارةُ الذهبية: إذا كان لديك حل “واقعي” أفضل مما لدينا تفضل وإمشِ به، وسنمشي وراءك. إذاً، على الضعفاء الذين لا يمتلكون حلاً منافساً “ولن يمتلكوه” أن يصمتوا، إن لم يكونوا واقعيين ليمشوا وراء من يمتلكون حلهم الخاص.
في الجانب الآخر من الحدود، لم يظهر محتفلون يُتوقع أنهم أيضاً مستفيدون من باخرة المازوت الإيرانية، حيث من المنتظر حصول الأسد على نصيبه من الصفقة من دون فهم العبارة على محمل المجاز، فحصة الأسد في هذا السياق يقررها المايسترو الإيراني، مثلما يقرر أين تكون أولوية التوزيع الحالية. رغم الوصاية الإيرانية، لا يستقيم أن تُستخدم أراض تحت سلطة الأسد كبوابة خلفية من دون منحه بضعة صهاريج يحتاجها بقدر ما يحتاجها اللبناني، ذلك ضروري أيضاً لبلع الإهانة الأخرى، إهانة تغيير مسار الباخرة الإيرانية ورسوها في بانياس لئلا يتسبب ذهابها إلى لبنان بإحراج حكومته حسبما أعلن نصرالله.
إلا أن استخدام سوريا كمدخل خلفي فيه فوائد تفوق التغلب على حرج حكومي، فهو يثبت مقولة “مازوت واحد في شعبين” إذا استخدمنا زلة لسان شهيرة لمجنَّس سوري برر ذهابه للاقتراع في لبنان بـ”أننا بلد واحد في شعبين”، وذهبت مثلاً ساخراً تلك الجملة التي قيلت قبل ربع قرن. أما إذا غادرنا الهزل إلى العبارة الأم “شعب واحد في بلدين”، فمن شبه المؤكد أن الحزب يريد استعادتها بقوة، ولا يمانع أن تفهم كأنها عودة للأسد إلى لبنان من دون أن تكون كذلك.
الحديث بين الحين والآخر عن شبح الوصاية الأسدية على لبنان يتجاهل واقع انهيار الأسدية في سوريا، وافتقارها تالياً الغطاء الدولي والإقليمي الذي ما أن سُحب حتى انتهى عصر وصايتها السابق. فتح الحدود، بالميليشيات والمازوت والصواريخ وسواهم من بضائع التهريب، أمر آخر لا يعني استعادة زمن الوصاية تلك. ما يصحّ إلى حد كبير أن تجاوز الحدود على هذا النحو مؤشر إلى الوصاية الإيرانية التي أزالت الحدود بميليشياتها بدءاً من الحدود مع العراق وصولاً إلى جنوب لبنان.
الانفتاح على الأسد، بالمازوت وبأسماء غير مؤثرة ضمن الحكومة اللبنانية الجديدة، لا يعكس نفوذاً مستعاداً له، بل هو النفوذ الإيراني على الجانبين يقتضي هذا النوع من التطبيع كإقرار لبناني أخير بعدم وجود الحدود كرمز من رموز الاستقلال. هو بالأحرى الانقضاض على بقايا لبنان وليست عودة الأسد، وقد لا يكون هناك سبيل أفضل لإتمام عملية الانقضاض من تذويبه على المثال السوري المجاور.
الاحتفال بالمازوت يرفع على سبيل الزجل شعارات متباهية بفك الحصار بموجب عقوبات قيصر، وهو انتصار كاذب لأن مسؤولين أمريكيين صرحوا بعدم معارضتهم وصول المازوت، فالمرشحة لمنصب مساعد وزير الخارجية باربرا ليف رأت في موضوع الباخرة الإيرانية محاولة من الحزب لتحسين سمعته، وأعلنت انفتاحها على رفع بعض القيود المرتبطة بقانون قيصر. كذلك فعل بوب منينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، إذا أعلن “بصفته أيضاً من المتحمسين الشرسين لقانون قيصر” عن انفتاحه على إقرار إعفاءات يستفيد منها لبنان.
لكن بالتأكيد، ثمة انتصار حقيقي يحتفل به الحزب، هو ظهوره بمظهر المخلّص المنقذ بعدما وصل اللبنانيون إلى ما وصلوا إليه. هو بالطبع ليس انتصاراً للبنان، بل إنه انتصار على اللبنانيين، ولا أبلغ من انتصار يكون فيه اللبناني معدوم الحيلة، بحاجة إلى إنقاذ كيفما كان ومن أينما أتى. لا أبلغ من انتصار يضحي فيه اللبناني باشتراطاته السياسية من أجل أساسيات العيش التي لم يفتقدها من قبل على هذا النحو، وبذلك ينضم إلى محيطه القريب، المحيط المدقع معيشياً وسياسياً. لمعرفة حجم الانتصار يكفي تذكر حشود اللبنانيين التي راحت تنطلق في 17 تشرين الأول2019، ثم مقارنتها بالحشود التي لم يشهدها لبنان من قبل أمام محطات الوقود وحتى في بعض أماكن التسوق، وكأن كل ما حدث لاحقاً نوع من العقاب الجماعي بسبب الجرأة على القول: كلن يعني كلن. لقد اختبر السوريون مصيراً مشابهاً عندما ثاروا ضد الأسد وحوربوا في لقمتهم، لنشهد لاحقاً انهياراً متشابهاً للعملة في بلدين، وعتمة متشابهة في بلدين، وفقراً يتجه ليكون متشابهاً في بلدين.
طريق المازوت ليس بشرى للسوريين، حتى إذا استفادوا منه مؤقتاً بنسبة ما كأرض عبور، وليس من مصلحة السوريين أن يشبههم لبنان. على الأقل، من نواحي الوفرة والحريات، لطالما تمنى السوريون مستقبلاً شبيهاً إن لم يكن أفضل؛ نكوص لبنان إلى مآل شبيه بالمآل السوري، وبرضا أو صمت دوليين، يغلق عليهم أيضاً دائرة اليأس.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت