انقضت خمس سنوات على التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب نظام الأسد، الذي بدأ مع نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، وقدم الساسة الروس في ذلك الوقت حججاً مختلفة وذرائع واهية لتبرير تدخلهم، لكنه جاء في حقيقة الأمر على خلفية طلب من نظام الملالي الإيراني، بعد أن فشلت قواته وميليشياته المتعددة الجنسيات في الدفاع عن رصيفه نظام الأسد، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط، لكن هجمات الآلة العسكرية الروسية العمياء على مناطق سيطرة فصائل المعارضة وحاضنتها الاجتماعية احدثت الفرق على الأرض، وتمكنت من تغيير موازين القوى لصالح النظام.
وبعد انقصاء سنوات خمس على التدخل العسكري الروسي، فإن أي جردة حساب تظهر أن ما جناه الروس يتلخص في تحولهم إلى قوة احتلال في سوريا، بعد أن تحول نصف شعبها ما بين نازح ولاجئ، وقُتل منهم مئات الآلاف، وأصبح 12 مليون سوري على الأقل بحاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية، فضلاً عن تخريب وتدمير مدن وبلدات وقرى سورية عديدة، حيث تقدر الأمم المتحدة خسائر سوريا بـ 442 مليار دولار.
ربما تكون روسيا قد حققت ما كان حلماً قديماً لدى ساستها، والمتمثل في الوصول إلى المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط، حيث باتت تملك قاعدتين عسكريتين بحريتين في سوريا، واختبرت أكثر من 316 طرازاً من الأسلحة فيها على حساب دماء السوريين، إلى جانب تعلم جيشها القتال بطريقة مختلفة، حسب وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو. كما تمكنت من بسط سيطرتها على مجمل الأراضي السورية على حساب تعميق مأساة الشعب السوري، وليس على حساب تنظيم “داعش” أو “جبهة النصرة” وسواهما، ولم تتوانَ عن ارتكاب الجرائم ضد المدنيين وضد الفصائل السورية المقاتلة، ووفرت غطاء سياسياً وعسكرياً لجرائم النظام وللحربه الشاملة، التي يخوضها إلى جانب الميليشيات الإيرانية ضد غالبية السوريين منذ انطلاقة ثورتهم.
ولا شك في أن روسيا بات لها دور حاسم قرارات الحرب والسلم، وفي مختلف تفاصيل القضية السورية، وأبرمت صفقات اقتصادية مهمة مع نظام الأسد، إلا أنها مع ذلك ليست اللاعب الوحيد على الأرض السورية، إذ تقاسمها النفود كل من الولايات المتحدة الأميركية التي توجد عسكرياً قرب حقول النفط والغاز في الجزيرة السورية وفي قاعدة “التنف”، وإيران التي تمتلك عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات، ونفوذها المتغلغل في نسيج وثنايا المجتمع السوري، فضلاً عن إقامتها قواعد عسكرية عديدة، وتركيا التي توجد قواتها في مناطق إدلب وما حولها والمنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين إلى جانب فصائل سورية مدعومة من طرفها، وإسرائيل التي لها اليد الطولى في ضرب ما تشاء من مواقع وجود الميليشيات الإيرانية.
ويحاول الساسة الروس، في أيامنا هذه، البحث عن ممكنات وكيفيات استثمار ما حققته آلتهم العسكرية على المستويين الاقتصادي والسياسي، لكنهم وصلوا إلى طريق مسدود، وباتوا مهددين بأن يتحول ما جنوه من مكاسب إلى خسائر إن لم ينجحوا في التوصل إلى تسوية سياسية، خاصة أنهم أسهموا في إخراج القضية السورية من أيدي السوريين أنفسهم، وصارت تتحكم فيها القوى الدولية والإقليمية الخائضة في الصراع على بلدهم. والأهم هو عدم قدرتهم على ابتكار ممكنات سياسية، تنهض على التفاوض والتوافق من خلال ابتكار مخارج وحلول تتوافق عليها جميع الأطراف، لذلك فإن نهاية الخيار العسكري بالنسبة إليهم، لا تعني البحث الجاد عن نهاية سياسية حقيقية للكارثة السورية، في ظل مواصلتهم تقديم كل سبل الدعم لنظام الأسد، الذي يرى بأن الحل السياسي وفق القرار الأممي 2254 يعني العودة إلى الوضع في سوريا إلى ما كان عليه قبل انطلاق الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011، وهذا ما لا يمكن تحقيقه.
وبالرغم من حديث وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن نهاية المواجهة العسكرية بين النظام والمعارضة، وأنه بقيت فقط بؤرتان للتوتر في سوريا، هما منطقة إدلب التي توجد فيها قوات تركية وفصائل معارضة، ومنطقة شرقي نهر الفرات التي توجد فيها قوات أميركية وقوات سوريا الديمقراطية، وأن لا حل عسكري فيهما، إلا أن الساسة الروس ليسوا في وراد حثّ نظام الأسد على الدخول الجاد في العملية السياسية، إذ حتى اللجنة الدستورية التي اجترحها الروس أنفسهم حولوا اجتماعاتها إلى متاهة في سياقات مراوغات النظام وتسويفاته، بالرغم من اعترافهم بأنها ليست بديلاً عن المسار السياسي التفاوضي في جنيف في إطار تطبيق القرار 2254، الذي حوّروه حسبما يريدون، وأفرغوه من محتواه.
وتظهر التحركات السياسية الروسية الأخيرة باتجاه عقد لقاءات واجتماعات مع شخصيات وقوى محلية سورية، أن الروس يحاولون سحب الأوراق من يد الولايات المتحدة في سياق التنافس معها في منطقة الجزيرة السورية، وخاصة الورقة الكردية، ولا يخرج ذلك عن نهجهم القديم في إيجاد توافقات بين قوى ومكونات سياسية تتسق مع الرؤية الروسية في سوريا، وعن إطار محاولاتهم استقطابها، وخلق منصات وأطراف “معارضة” جديدة، وفرض رؤيتهم من خلالها، كي تتناثر منصات المعارضة السورية، وتُميّع مواقفها.
ولا شك في أن موسكو تريد الحفاظ على ما جنته عسكرياً في سوريا، لذلك يسعى ساسة الكرملين إلى هندسة تسوية للوضع السوري على مقاسهم، يستثمرون فيها ما صرفوه عبر بوابات متعددة، ويضمنون فيها نفوذ بلادهم ومصالحهم قبل كل شيء، شريطة أن لا تفضي إلى تغيير نظام الأسد. وبالرغم من إقرارهم أحياناً بعدم قدرتهم على إيجاد هكذا تسوية، إلا أنهم لا يبذلون مساعيَ كافية من أجل التوصل إلى تفاهمات دولية على تسوية سياسية للوضع السوري، وبالتالي لا يمكن لروسيا أن تقبض ثمن تدخلها العسكري حتى وإن طال الزمن.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت