محاولاتٌ روسية لإيقاف المساعدات الأممية عبر الحدود: أهدافٌ سياسية وكارثة إنسانية
“قتلنا الجوع، ناهيك عن القصف الذي كان لا يهدأ، كل يوم كنا نبحث عمّا نسد به الرمق، وعندما نعلم بدخول مواد إغاثة نترقب بأمل، لعلها تحوي على ما يعين، لكنها كانت لا تسمن ولا تغني من جوع”.
كلمات تذكر بها الشاب عبد القادر، المقيم حالياً في إدلب بالشمال السوري، سنوات الحصار التي عاشها في الغوطة الشرقية من قبل نظام الأسد، على الرغم من القرارات الدولية التي تلزم الأطراف كافة بإيصال المساعدات.
يقول عبد القادر لـ”السورية. نت”، “عندما كنا نعلم بدخول المساعدات، يتجمع المئات بأجسامهم الهزيلة التي أنهكها الجوع، يترقبون حصتهم منها، ليتفاجؤوا كل مرة بأنها كميات قليلة لا تكفي، إضافة إلى وجود مواد لا فائدة منها كألعاب أطفال وأدوية ليست مطلوبة ولا أولوية للسكان، الذين كانوا دائما يعودون إلى خيارهم الوحيد وهو الصمود في وجه شعار النظام: الجوع أو الركوع”.
يتذكر الشاب الثلاثيني معاناته في الغوطة الشرقية، قبل خروجه مع الآلاف منها نحو إدلب ومحيطها، حيث تدفع روسيا باتجاه عرقلة تمديد قرار مجلس الأمن الدولي 2165، لإيصال المساعدات لهذه المناطق عبر الحدود، وبالتالي إيصال قوافل المواد الغذائية والإغاثية الدولية للنظام، ليقوم بتوزيعها، وهو ما كان سارياً في المناطق التي تحاصرها قوات الأخير سابقاً.
لم تكن الغوطة الشرقية بأفضل حال من مناطق داريا ومعضمية الشام ومناطق جنوبي دمشق ومضايا والزبداني في القلمون الغربي، وريف حمص الشمالي، التي عانت جميعها لسنوات طويلة من حصار خانق من قبل نظام الأسد، الذي اعتمد سياسة تجويع السكان في المناطق الخارجة عن سيطرته لسنوات.
وجميع المناطق المذكورة، تعرضت لحصار طويل، وعندما كان نظام الأسد يُتيحُ إدخال قوافل الإغاثة الدولية إليها، بعد ضغوطات، كانت تصل بكميات قليلة غير كافية لعدد السكان المتواجدين، حسبما يقول سكان محليون عاشوا الحصار بهذه المناطق.
ويصوت مجلس الأمن، هذا الأسبوع، على قرار تجديد آلية إيصال المساعدات الإنسانية العابرة للحدود إلى سورية، بعد تمديده مطلع العام الحالي مدة ستة أشهر فقط، واقتصاره على معبرين فقط هما باب السلامة والهوى، وإغلاق معبري اليعروبية مع العراق والرمثا مع الأردن.
وتتذرع روسيا في محاولاتها عرقلة تمديد القرار، بأن إدخال المساعدات عبر الحدود، دون موافقة النظام، يعتبراً خرقاً لـ”سيادة سورية”.
سياسة الجوع أو الركوع
في 14 من يوليو/ تموز 2014، أقر مجلس الأمن القرار 2165، الذي نص على أن “الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة وشركائها المنفذين، يؤذن لهم باستخدام الطرق عبر خطوط النزاع والمعابر الحدودية، باب السلام وباب الهوى مع تركيا، ومعبر اليعربية مع العراق، ومعبر الرمثا مع الأردن، بهدف ضمان وصول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك اللوازم الطبية والجراحية، إلى المحتاجين في أنحاء سورية من خلال أقصر طريق مع إخطار السلطات السورية بذلك”.
وأسهم القرار في إيصال المساعدات لملايين السوريين القاطنين في المناطق الحدودية، مثل مدن وبلدات الشمال السوري عبر معابر تركيا، ومناطق شمالي شرقي سورية عبر العراق، والجنوب السوري عبر الأردن، إذ كانت المساعدات الأممية تصل عبر منظمات إنسانية بشكل دوري ومنتظم.
لكن نظام الأسد استخدم إدخال المساعدات كسلاح، في المناطق البعيدة عن الحدود، عبر التحكم بها، من أجل الضغط على السكان الذين يعتبرهم حاضنة للثورة ضده، عبر اتباع سياسية التجويع من أجل القبول بـ”المصالحات”، والعودة إلى ما يسميه النظام “حضن الوطن”.
ويقول المدير التنفيذي لوحدة المجالس المحلية (LACU)، بهجت حجار، لـ”السورية. نت” إن “سياسة الجوع أو الركوع، أو التجويع بهدف الركوع، هي سياسة معلنة من قبل النظام، وليست مخفية. لا أحد يستطيع إنكار استخدام النظام هذه السياسية منذ السنوات الأولى للثورة، حتى بالمناطق التي لم تكن خارجة عن سيطرته بعد، إذ كانت الأحياء التي تتظاهر تحرم من الخدمات وتغلق الأفران، وغير ذلك من أشكال معاقبة من يرفض حكمه”.
أما مدير المناصرة والسياسات في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، محمد كتوب، فقد اعتبر في حديثٍ لـ”السورية. نت”، أن المساعدات الإنسانية هي أحد أدوات الضغط على المجتمعات المحتضنة للحراك ضد النظام، و”استخدمت أجهزة الأمن التابعة للحكومة السورية المساعدات بشكل سياسي واضح، وكان لها يد عليا في تحديد المناطق والبلدات المستفيدة وحرمان مئات الآلاف، ولم يواجه ذلك بحزم كاف من الأمم المتحدة لفرض دخول المساعدات على المناطق المحرومة”، مؤكداً أن “المساعدات الأممية لم تصل يوماً لـ 10% من الاحتياجات في المناطق المحاصرة”.
كيف يستفيد النظام من عرقلة القرار؟
الحديث عن تحكم نظام الأسد بالمساعدات، ومنع أو تقليص دخولها إلى مناطق كان يحاصرها، يأتي في سياق الدعوات الصادرة من قبل منظمات إنسانية وإغاثية وحقوقية للدول الفاعلة في مجلس الأمن، بضرورة تمديد القرار الدولي القاضي بإدخال المساعدات عبر الحدود.
وطالبت “هيومن رايتس ووتش”، الأسبوع الماضي، اعضاء مجلس الأمن، وخاصة روسيا، بالعمل فوراً على السماح مجدداً بإدخال مواد الإغاثة الإنسانية عبر معبر اليعربية إلى شمال شرق سورية، إلى جانب المعبرين الحدوديينِ مع تركيا، معتبرة أن عدم القيام بذلك سيفاقم الأزمة الإنسانية في سورية، في ظل النقص الحاد في المواد الطبية وغيرها؛ خاصة مع ظروف وجود فيروس “كورونا” المستجد.
وأكدت المنظمة أن “القيود على المساعدات من دمشق والعراق، تعرقل وصول الإمدادات والطواقم الطبية إلى مليونَي شخص في شمال شرق سورية”، عبر معبر اليعربية عند الحدود العراقية، الذي كانت تستخدمه “منظمة الصحة العالمية” لإدخال المساعدات، داعية إلى إعادة تفعيله من جديد.
أما في الشمال السوري؛ إدلب وريفها وريف حلب، فلا تخفِ منظماتٌ إغاثية هناك، خشيتها من استخدام روسيا لحق النقض “الفيتو” ومنع تمديد القرار، وبالتالي استبداله بالعمليات عبر الخطوط وحصر إدخال المساعدات عن طريق نظام الأسد، ما سيمكنه من التحكم الكامل في إيصال المساعدات وعودة سيناريوهات الحصار.
وتحدث بهجت حجار عن خطورة عدم تمديد القرار لأهالي الشمال السوري، مؤكداً أن النظام “سيستخدم (المساعدات) لتركيع الشمال السوري، وإجباره على مصالحات وهمية، كما جرى في الغوطة وداريا وحمص القديمة، وقبلها ريف حمص الشمالي والزبداني ومضايا، إذ أن مساعدات الأمم المتحدة كانت تصل إلى دمشق بكميات كبيرة، فالنظام كان قادراً على إدخالها لو كان صادقاً”، مشدداً أن “تجاربنا مع النظام في هذا الموضوع ليست مُبشرة”.
مدير وحدة تنسيق الدعم، محمد حسنو، أوضح لـ”السورية. نت” خطورة توقف القرار، إذ سيمكن النظام من التحكم بمسار وتوزيع المساعدات ” والتي وجدنا كثيراً منها تُستخدم من قبل جيش الأسد وأنظمته القمعية”.
كما اعتبر أن عدم تجديد القرار الدولي “سيوفر لنظام الأسد معلومات، يُفترض أن تكون سرية عن أسماء المنظمات والموظفين ولوائح المستفيدين، إلى جانب التحكم بزمن العبور وكمية المساعدات، والتي بكل تأكيد ستوفر له ولشبكة الفساد المرتبطة به وللشركات الروسية مالاً بالنقد الأجنبي، الذي هو بأمس الحاجة له، ليستعيد عافيته، وسيمكن النظام من فرض هيمنته على مجريات خطة الاستجابة الإنسانية من دمشق، وستكون المناطق الخارجة عن سيطرته عرضة للابتزاز”.
من جهته ربط محمد كتوب بين توقف القرار وبين عملية الابتزاز التي قد تحصل من ورائه، واعتبر أن “حجم المساعدات التي تضخها الأمم المتحدة، رغم كونها غير كافية، ولكن سيفرض أن تنطلق من دمشق، وعندها سيعاد سيناريو استخدام المساعدات كسلاح ضد المجتمعات، كما جرى في المناطق المحاصرة سابقاً”.
ووصف حجار الوضع بأنه “مأساوي في حال توقف القرار”، وقال إن “الناس ستكون تحت رحمة العقلية العسكرية والأمنية، وقد يبدي النظام في البداية استعداداً للمساعدة، وتمرير بعض المساعدات، لكن فعلياً الوضع الإنساني لأربعة ملايين نازح ولاجئ، سيكون مأساوياً، الذي هو سيئ بالأصل وسيزداد سوءاً”.
شرعية للنظام وبطاقة تفاوضية للروس
وتصر روسيا ونظام الأسد على منع إدخال المساعدات الأممية إلى سورية، وخاصة مناطق الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة، إلا عن طريقهم، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول أهدافهما من ذلك.
الهدف الأول هو “موضوع الشرعية”، حسب حجار، إذ “يوجد تنافس ونزاع حول شرعية الجهة المسيطرة بين كل الأطراف، بمعنى دائماً حكومة النظام تدعي أنها الحكومة الشرعية، وكل شيء خارج سيطرتها، هي جماعات متطرفة إرهابية، وهذا الأمر منذ اليوم الأول من الثورة، إذ كانت تعتبر كل من خرج في المظاهرات هو خارج شرعية الدولة”.
واعتبر حجار أن “قرار مجلس الأمن بإدخال المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أعطى شرعية على الأقل للمجتمع المدني الموجود، وللمجتمعات المحلية والمنظمات القادرة على أن تكون مؤهلة لاستلام الدعم، ما أدى إلى إعطائها شرعية مقبولة من حيث تقديم الخدمات للناس المدنيين”.
أما الهدف الثاني كما يقول مدير وحدة المجالس المحلية، فهو “التحكم بالنوع والكم ومتى تدخل المساعدات، إذ أنه في حال وقف القرار سيكون مركز دمشق هو المسؤول عن تقديم المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وعندها لن يكون هناك أي قدرة لمراقبة والتحكم بنوعية ووقت كمية المساعدات التي تدخل، بمعنى آخر سيستخدمها النظام لتحقيق أهدافه العسكرية والسياسية بشكل أساسي، واستمراره بالنهج الأمني العسكري لتغيّير الوضع القائم”.
ومن الأهداف أيضاً، حسب ذات المتحدث “معاقبة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والمهجرين الذين تهجروا من المناطق التي سيطر عليها، وإيصال رسالة بأنه قادر للوصول لهم وقادر على محاصرتهم في الشمال، لكن هذه المرة بشرعية أممية وتجويعهم مرة ثانية”.
أما هدف الروس، فقد يكون القرار “بطاقة تفاوضية مع الأتراك، وبالتالي الأمريكان، حول مستقبل المنطقة. روسيا دائماً تستخدم بطاقات القوة، والضغط من أجل خلق وزن أكبر في المنطقة، وقد تكون ورقة تفاوضية يفاوض بها على ملفات سواء في شمال غرب، أو شمال شرق سورية، أو موضوع إدلب أو موضوع اللجنة الدستورية أو موضوع الحل السياسي”.
من جهته، اعتبر حسنو أن حلفاء النظام، لم يألوا جهداً عسكرياً أو سياسياً، إلا حاولوا فيه جاهدين استعادة شرعية نظام الأسد في حكم سورية؛ تارة عبر استخدام حق النقض الفيتو لعرقلة القرارات الأممية القاضية بتنفيذ الاستجابة الإنسانية عبر الحدود، وتارة أخرى في قصف ممنهج للمنشآت الإنسانية الخدمية والصحية والتعليمية التي مولها صندوق المساعدات الأممي.
وأكد حسنو أن “روسيا والنظام يحاولان محاربة المجتمع الدولي، عبر زيادة معاناة الشعب السوري وإرضاخه، لاسيما بعد صدور قرار قيصر والوضع الاقتصادي المتردي نتيجة انهيار الليرة السورية، وبالتالي فإن النظام والروس يحاولان استغلال هذه المساعدات سياسياً، لإيهام المجتمع الدولي بإن نظام الأسد بات يتحكم بكافة مناطق سورية بعد أن بسط سيطرته بالحديد والنار على مناطق واسعة وهجر أهلها”.