معضلتا “الأمن” و”السجين”.. تتفاعلان في شرقي سوريا
يُجمع معظم المحللين في منطقتنا، بأن المناوشات والتحرشات المتبادلة بين الروس والأميركيين، في الأجواء السورية، لن تؤدي إلى تصعيد عسكري نوعي. وأن سقفها لن يتجاوز ما وصلت إليه، حتى الآن. لكن معضلتَي “السجين” و”الأمن” الشهيرتين في علم السياسة، واللتين كانتا السبب في معظم الحروب عبر التاريخ، تدفعان إلى التشكيك بالإجماع المشار إليه أعلاه.
وفي أدبيات علم السياسة، تُعرف “معضلة الأمن” بأنها ناجمة عن عدم ثقة الأطراف ببعضها، وقراءة كل تحرك من طرفٍ، لتطوير قدراته، على أنه استهداف للآخر أو رغبة في انتزاع مساحات من نفوذه. وتؤدي هذه المعضلة إلى معضلة أخرى تُعرف بـ “معضلة السجين”، التي تؤدي بدورها، لوقوع الحرب.
لكن ساسة التاريخ المعاصر، ومنذ نهايات الحرب العالمية الثانية، طوروا استراتيجيات لإدارة “معضلة السجين”، تسمح -عبر قنوات التعاون بين الخصوم- بخلق هامش مقبول من الثقة، يجعل وقوع الحرب احتمالاً أبعد. وهو ما منع تحول العديد من الأزمات بين القوى الكبرى إلى صراع مفتوح. إذ أُحكمت كل الصراعات والتنافسات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين بقواعد للصراع، تسمح بالخفض من حدته حين اللزوم. وهو ما انطبق على التنافس والصراع في سوريا، منذ العام 2015.
وأبرز أدوات خفض التصعيد ومنع انزلاق التنافس إلى حالة حرب، في سوريا، كانت “آلية منع التصادم”، التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، في خريف العام 2015، وتنص على خط ساخن يتم التواصل عبره لمنع حدوث أي تصادم عسكري، أو سوء تقدير، يخرج بالأمور عن نطاق السيطرة.
لكن، ومنذ أشهر، وبصورة خاصة في الشهر الأخير، ازدادت شكاوى المسؤولين الأميركيين من تجاهل روسيا لبروتوكولات التعاون عبر الخط الساخن في سوريا. وترافق ذلك مع جملة عوامل عززت حالة ضعف الثقة بين الأطراف الناشطة في سوريا.
إذ ترتاب موسكو، وحليفتها طهران، منذ أشهر، من حراكٍ أميركي نَشِطٍ في “شرق الفرات”، قُرِأ على أنه إحياء لمشروع “الحزام العشائري”، القائم على فكرة تشكيل قوة عشائرية عربية تكون قادرة على القيام بعملية عسكرية تسيطر من خلالها على مدينة البوكمال الحدودية، الخاضعة للسيطرة الإيرانية حالياً، وصولاً إلى قاعدة التنف. بصورة تقطع الطريق تماماً على التواصل الإيراني مع القوى المدعومة من جانب طهران، في سوريا ولبنان.
وقد أشار أكثر من مصدر محلي إلى أن دبلوماسيين أميركيين نشطوا خلال الشهرين الماضيين، بالفعل، في عقد لقاءات مع وجهاء وشيوخ عشائر عربية، بغية الترتيب لهذا المشروع. وقد دفعت المخاوف من هذا النشاط إيران وحليفتها روسيا، إلى ترتيب حشد عسكري على الضفة الغربية من الفرات، يقابل حشداً آخر، رتبته الولايات المتحدة مع حلفائها المحليين، وفي مقدمتهم “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”.
وقد نفت الفصائل المسلحة المرتبطة بالأميركيين، -“جيش سورية الحرة”، وكذلك “قسد”- وجود أي نيّة لتنفيذ عملية عسكرية في القرى السبعة التي يسيطر عليها النظام وحلفاؤه في الضفة الشرقية من الفرات –ريف دير الزور-. كما وتوافرت عدة مؤشرات تضعف من سيناريو العملية العسكرية المرتقبة المدعومة أميركياً، أبرزها، الاشتباكات بين مجلس دير الزور العسكري وبين قوات “قسد”، في الأيام القليلة الفائتة، وذلك رغم أنهما طرفان في تحالف مشترك. ناهيك عن مؤشرات النقمة العشائرية العربية الناجمة عن سيطرة المكوّن الكردي في “قسد”، على مقاليد الأمور في مناطق ذات غالبية عربية. إلى جانب عدم توافر عدد مقاتلين كافٍ لمواجهة واسعة النطاق مع إيران، في شرق سوريا. دون أن ننسى عدم رغبة أميركا في الصدام جوياً مع الروس في سوريا.
لكن، ما سبق، قد لا يكون كافياً لطمأنة الإيراني والروسي. وفي المقابل، تبدو واشنطن على قناعة تامة بوجود مخطط إيراني – روسي، لرفع كلفة وجودها في “شرق الفرات”، بغية دفعها للخروج من سوريا. وتدعم تصريحات وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، التي أطلقها في سياق زيارته الأخيرة إلى طهران، تلك القناعة الأميركية. إذ قال المقداد: “نقول إنه من الأشرف للجيش الأميركي والأفضل له أن ينسحب من الأراضي السورية قبل أن يجبر على الانسحاب منها”.
وكانت صحيفة “واشنطن بوست”، قد نقلت عن ضباط استخبارات أميركيين أن إيران تسلح ميليشيات موالية لها في سوريا، لشن هجمات جديدة على القوات الأميركية، وذلك بالتنسيق مع روسيا. كذلك كشفت مجلة “نيوزويك” الأميركية عن وثيقة مسرّبة من وكالة مخابرات، تدعم هذه المخاوف.
المخطط الإيراني – الروسي المزعوم، ينسجم مع مساعي قوى سياسية في الداخل الأميركي للضغط على البيت الأبيض بغية وضع خطة للانسحاب من سوريا. إذ وجّهت مجموعة من الناشطين السياسيين الأميركيين، تضم 26 منظمة، رسالة إلى مجلس النواب الأميركي تحثه فيها على دعم التعديل الذي يتصل بقانون صلاحيات الحرب في سوريا. وذلك في منتصف الشهر الفائت. واستند داعمو المشروع إلى مؤشرات تزايد الخطر على الجنود الأميركيين في سوريا، مستشهدين بمقتل متعهد أميركي وجرح خمسة جنود آخرين في آذار/مارس الماضي، في هجوم بطائرة مسيّرة، نفذته ميليشيا محسوبة على طهران.
وبالتزامن، تُبدي الميليشيات المحسوبة على إيران استهتاراً جلياً بردود الفعل العسكرية الأميركية، منذ صيف العام الفائت. في حين تمارس روسيا اختبارات متكررة لردود الفعل الأميركية، دون احتساب للعواقب، وفق وصف محللين أميركيين. ففي تشرين الثاني/نوفمبر المنصرم، حاولت روسيا إسقاط طائرة أميركية من دون طيار، في أجواء شرقي سوريا، باستخدام صاروخ (أرض – جو). لكن الصاروخ الروسي أخطأ الهدف. وفي آذار/مارس الفائت، تسببت مقاتلة روسية في سقوط طائرة مسيّرة أميركية في البحر الأسود. وقد تصاعدت التحرشات الروسية بالطائرات المسيّرة الأميركية في الأجواء السورية، خلال الشهر الفائت، بمعدل أقلق المسؤولين الأميركيين، ووصل إلى حد تحرش مقاتلة روسية بطائرة استطلاع أميركية مأهولة، معرّضةً طاقمها للخطر. حتى باتت واشنطن تخشى استهتار روسيا برد الفعل العسكري المحتمل من جراء إسقاط طائرة مسيّرة أميركية في الأجواء السورية. وهو ما دفع الأميركيين إلى تعزيز قدراتهم العسكرية في المنطقة، في محاولة للردع. إذ استقدمت القوات الأميركية منظومة هيمارس الصاروخية إلى قواعدها في دير الزور، وأعلنت عن وصول 12 مقاتلة متطورة من طراز إف 35 إلى الشرق الأوسط. كذلك، استقدمت واشنطن طائرات مقاتلة متطورة من طراز إف 22.
محاولات الردع تلك، عبر تعزيز الترسانة العسكرية الأميركية في سوريا، أو قربها، أسست وفق خبراء عسكريين أميركيين، لحالة قابلة للتصعيد، في حال حصل احتكاك مباشر. وسط مخاوف من تجاهل موسكو لرسائل الردع الأميركية.
ورغم كل ما سبق، يبقى الرأي الغالب لدى معظم المحللين، أن كل الأطراف، واشنطن، وموسكو، وحتى طهران، لا ترغب بتصعيد منفلت من قواعد الصراع المُعتمدة منذ الـ 2015. والتي سمحت بوجود قوى متنافسة في الحيز الجغرافي الضيّق نفسه، وانخراطها في صدامات منخفضة الكلفة، دون أن تنجر إلى حرب شاملة، لا تحكمها قواعد الصراع تلك. وهو رأي يمثّل الاحتمالية الأرجح لما قد يحدث في المستقبل القريب. لكنه في الوقت نفسه، يتجاهل عوامل لطالما أسست، تقليدياً، وعبر التاريخ، للظروف الملائمة، لاندلاع الشرارة الأولى لحرب منفلتة من قواعد الصراع. تلك الظروف باتت متوافرة جميعها في سوريا. ويبقى الأمر وقفاً على مدى استعداد كل الأطراف، معاً، وبالتوازي، لخفض التصعيد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت