ليس هناك ما يتحرّك في سوريا حيث الجمود سيّد الموقف. كلّ احتلال من الاحتلالات الخمسة في مكانه. لا يزال الأميركي في شمال شرق سوريا متحكّما بمعظم النفط والغاز والمياه والزراعة. ولا يزال الروسي يبحث عمّن يشتري منه ورقة النظام السوري. ولا يزال التركي يعزز مواقعه في الشمال السوري وهمّه الأوّل الأكراد الذين يحميهم الأميركي. ولا يزال الإيراني يسعى إلى التمدّد على الرغم من الضربات الإسرائيلية… ولا يزال الإسرائيلي يتفرّج على المشهد الدائر في مكان قريب منه. يتفرّج ويتدخّل متى يحلو له الأمر. يفعل ذلك من الجولان المحتلّ منذ العام 1967، أي منذ 54 عاما. نعم، 54 عاما أي ما يزيد على نصف قرن!
أسوأ ما في الأمر إصرار بشّار الأسد على إجراء انتخابات رئاسيّة في السادس والعشرين من أيّار – مايو الجاري. مشكلة بشّار أنّه يعيش في عالم آخر لا علاقة له من قريب أو بعيد بسوريا. كان يمكن الوقوف مع الانتخابات لو كانت تساهم في حلّ أو تسوية تعيد سوريا إلى السوريين وتخرج الاحتلالات. لكن الواقع أنّ الانتخابات التي تعني بقاء بشّار في دمشق، ليست سوى خطوة أخرى في طريق استمرار الجمود القائم وزيادة عذابات الشعب السوري. فضلا عن تكريس وجود الاحتلالات.
يمكن وضع الاحتلالات الخمسة جانبا والتطرق إلى الجانب الإنساني للمأساة السورية. ثمّة أرقام لمنظمات دولية عدّة مهتمّة بالوضع السوري وبوضع السوريين تحديدا. تقول هذه الأرقام إن 90 في المئة من السوريين يعانون من الفقر وهناك نسبة 70 في المئة منهم لا يستطيعون الحصول على ما يكفي من المواد الغذائية.
حسنا، أجريت انتخابات رئاسية في السادس والعشرين من الشهر الجاري. ماذا بعد ذلك؟ هل تعني هذه الانتخابات أنّه صار للنظام شرعيّة ما؟ الجواب، بكلّ بساطة، أن ليس هناك ما يمكن أن يوفّر للنظام السوري القائم منذ العام 1970، وهو في الواقع امتداد لانقلاب عسكري في الثامن من آذار – مارس 1963، أيّ شرعيّة من أيّ نوع. هناك ضباط بعثيون، في معظمهم، اغتصبوا السلطة في 1963 وهناك ضباط علويّون أخذوا السلطة إلى مكان آخر في 23 شباط – فبراير 1966 وصولا إلى تفرّد حافظ الأسد بحكم سوريا في 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970، وصولا إلى انتخابه رئيسا للجمهورية في شباط – فبراير 1971 بصفة كونه أوّل علوي يصل إلى هذا الموقع الذي تحوّل إلى ملك للعائلة على غرار ما عليه الحال في كوريا الشمالية.
من أطرف ما نشهده حاليا وجود سياسيين لبنانيين من نوع جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، يراهنون على بشّار الأسد وعلى أنّه سيلعب دورا في إعادة النازحين السوريين الموجودين في لبنان إلى سوريا. لو كان بشّار الأسد مستعدّا للقيام بأي مبادرة حسن نيّة تجاه لبنان، لكان أفرج عن اللبنانيين المسجونين في سوريا منذ سنوات طويلة. بين هؤلاء عسكريون لبنانيون احتجزوا بعد سيطرة الجيش السوري على قصر بعبدا في أثناء وجود ميشال عون فيه في الثالث عشر من تشرين الأوّل – أكتوبر 1990. وقتذاك لجأ ميشال عون إلى السفارة الفرنسيّة بينما كان جنود لبنانيون يقاتلون لوقف الهجوم السوري على قصر الرئاسة.
ليس كلام جبران باسيل عن دعم بشّار الأسد سوى مزحة سمجة، خصوصا في ظلّ تجاهله لمصير اللبنانيين الموجودين في السجون السوريّة. لكنّ ما يثير القلق هو الموقف الروسي الذي لا يبدو مفهوما في أيّ شكل. ما الذي تستطيع روسيا عمله بالورقة السورية باستثناء أنّه صار لها وجود دائم وثابت على شاطئ المتوسّط، أي في المياه الدافئة التي سعت عبر التاريخ في إيجاد موطئ قدم فيها؟ كل ما تفعله روسيا، في غياب موقف واضح من نظام بشّار الأسد، هو الدوران في حلقة مقفلة ولا شيء آخر غير ذلك. لن تجد روسيا من يقايض على هذه الورقة، خصوصا أن الولايات المتحدة حصلت على ما تريد الحصول عليه في سوريا ولا تجد ضرورة في أيّ مساومة مع الجانب الروسي.
استطاعت روسيا إبقاء بشّار الأسد في دمشق وذلك عندما تدخّلت عسكريا ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015. ما الفائدة من ذلك؟ الفائدة كانت لإيران التي يهمّها بقاء النظام السوري من منطلق أنّه نظام أقلّوي تعرف تماما أنّه لا يستطيع إلّا أن يكون إحدى أدواتها في المنطقة. اختبرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” النظام السوري منذ أيّام حافظ الأسد. وقف إلى جانبها في الحرب مع العراق وهي حرب استمرّت ثماني سنوات. سهّل حافظ الأسد دخول “الحرس الثوري” إلى لبنان في العام 1982 بحجة المشاركة في مواجهة الإسرائيليين. بعد ذلك، استطاعت إيران وضع يدها على لبنان وتقليص حجم الوجود السوري فيه، بل إنهاء هذا الوجود، لمصلحتها… فيما روسيا تتفرّج.
ستبقى روسيا تتفرّج في سوريا في انتظار من يشتري منها ورقة، لم تعد ورقة، وذلك بالتواطؤ مع إسرائيل أحيانا ومع إيران في أحيان أخرى وفي ظلّ علاقة معقّدة مع تركيا التي كرّست وجودها في الشمال السوري.
ليست الانتخابات الرئاسيّة السوريّة سوى خطوة أخرى على طريق كشف أنّ الأزمة التي يمرّ فيها هذا البلد ما زالت طويلة. إذا كان حافظ الأسد تواطأ مع إيران في حربها مع العراق، لكنّ ما لا بدّ من الاعتراف به أنّه حافظ دائما على هامش للتحرّك في الفضاء العربي. استخدم العراق وإيران ليقول إنّه قادر على أن يكون عنصر توازن في المنطقة. انطلى ذلك على بعض العرب، لكنّه لم ينطل على كثيرين. يكمن الفارق في أن بشّار الأسد لم يتقن اللعبة التي أتقنها والده ووضع كلّ بيضه في السلّة الإيرانيّة. من المستغرب تجاهل روسيا لهذا الواقع الذي يعني بين ما يعنيه أنّها وضعت نفسها في تصرّف إيران في بلد اسمه سوريا كلّ ما يمكن قوله عنه أنّه يعيش في ظلّ نظام لا يمكن أن تكون لديه أيّ شرعيّة في يوم من الأيّام. إنّه بالفعل منطق اللامنطق الذي يختزل السياسة الروسيّة في سوريا… إلّا إذا كان المنطق يقول إن الرهان على نجاح إيران في سوريا له ما يبرّره في الكرملين!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت