كانت تركيا أول دولة تعترف باستقلال كازاخستان في العام 1991 وتقيم العلاقات الدبلوماسية معها بعد عام واحد. التحرك التركي في عهد حكومة “الوطن الأم” وتورغوت أوزال كان انفتاحيا على الجمهوريات التركية التي كانت تحت تأثير النفوذ الروسي والإيراني بهدف تفعيل العلاقات مع هذه الدول، وتوسيع رقعة الانتشار والتمدد الاستراتيجي التركي في مناطق آسيا الوسطى.
في العام 2009 وخلال زيارة للرئيس الكازاخي نور سلطان نزرباييف إلى تركيا تم توقيع عشرات العقود واتفاقيات التعاون التجاري والعسكري والثقافي، ووضعت أسس مجلس التعاون الاستراتيجي الأعلى بين البلدين الذي لعب دورا أساسيا في إنشاء مجموعة الدول الناطقة بالتركية عام 2011 والذي تحول قبل أسابيع في قمة إسطنبول إلى منظمة الدول التركية. أرقام التبادل التجاري بين البلدين كانت الأقوى بين الجمهوريات التركية. تجاوزت أحيانا 4 مليارات دولار لكن الهدف المعلن رسميا كان رفع الرقم إلى 10 مليارات دولار في العام 2023. قرار كازاخستان الالتحاق باتفاقية خط الحديد باكو- تفليس -قارس باتجاه جنوب آسيا وبأن تكون جزءا من خط أوراسيا الاستراتيجي كان بين مؤشرات التقارب والتنسيق بين أنقرة ونور سلطان ايضا.
وقفت القيادة الكازاخية إلى جانب أنقرة أكثر من مرة في الأعوام الأخيرة ودخلت على أكثر من خط وساطة بينها وبين موسكو بعد حاثة إسقاط المقاتلة الروسية عام 2015، والتوتر التركي الإسرائيلي والملف الأرمني ودعم مشروع التكتل التركي في آسيا الوسطى، فلماذا تتخلى عن تركيا بمثل هذه السهولة والبساطة لصالح المزيد من النفوذ الروسي؟ هل شعرت بالخطر الحقيقي الكبير الذي يهدد الدولة أم هي أرادت استغلالها فرصة للتحرك من قيود إقليمية تطاردها حسمت الموقف فيها لصالح علاقتها مع الكرملين؟
أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن تضامن بلاده مع كازاخستان خلال اتصال هاتفي مع نظيره قاسم جومارت توكاييف. وأعرب أردوغان عن أمله في أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة في أقرب وقت ممكن وأن ينتهي التوتر في وقت قصير. “شعب كازاخستان سيتغلب على المشكلات في إطار الثقة والحوار المتبادلين”. وقالت الرئاسة التركية إن أنقرة مستعدة “لتبادل جميع أنواع المعرفة والخبرة التقنية إذا لزم الأمر”. بالمقابل يعلن الرئيس الكازاخي قاسم جومرت توكاييف أن عصابات إرهابية دولية تلقت تدريباً في الخارج تتحرك لاستهداف أمن واستقرار البلاد وأنه ينبغي اعتبار هجومها عملاً عدوانياً. هو التبرير السياسي والتقني الذي سهل دخول روسيا عسكريا إلى كازاخستان. لكن المشكلة ستكون عندما تطلق القوات الروسية والأرمنية النار على الناس من دون سابق إنذار كما تعهد توكاييف قطاع الطرق والإرهابيين.
الخطوة المرتقبة من قبل الجمهوريات التركية ستكون يوم الثلاثاء المقبل مع اجتماع طارئ لوزراء خارجية منظمة الدول التركية لبحث التطورات في كازاخستان. ألن يأتي هذا الاجتماع متأخرا بعض الشيء والجميع يتابع حركة نزول وصعود الطائرات الروسية في المدن الكازاخية محملة بقوات النخبة من المظليين؟
يقرر نور سلطان نزرباييف وبعد 30 عاما من الحكم الانسحاب لصالح شريكه توكاييف الذي تمسك بالمبايعة عبر تبديل اسم العاصمة من أستانا إلى نور سلطان. لكنه فشل في خطة تلميع صورة الحكم والحؤول دون إسقاط تمثال المؤسس من قبل الحشود الغاضبة، رغم قرار التراجع عن رفع أسعار المحروقات وإقالة الحكومة. وجد نفسه في النهاية يلجأ إلى القوات الروسية والأرمنية لإنقاذه من ورطته.
ما جرى مؤخرا في المدن الكازاخية هو ليس الانفجار الشعبي الأول من نوعه هناك. سبق أن شاهدنا صورا مشابهة في الفترة الواقعة بين عام 2008 وحتى اليوم. في العام 2011 استطاع النظام الالتفاف على انفجار مماثل ودفع ملايين الدولارات إلى شركة طوني بلير الإنكليزية لتحسين صورته في الغرب كما قال لنا الإعلامي التركي فهمي قورو مؤخرا.
تطورات محزنة مقلقة ولكنها مخيبة للآمال في تركيا التي عولت على علاقاتها مع كازاخستان لفتح الطريق أمام بناء تحالف الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى. دعت أذربيجان تركيا للحضور عسكريا إلى جانب الوجود الروسي. كازاخستان لم تفعل ذلك مسألة مؤسفة بالنسبة لأنقرة.
لماذا لم يطلب الرئيس الكازاخي دعم الجمهوريات التركية بالتنسيق مع أنقرة واختار طلب دعم موسكو؟ شكر خاص من الرئيس توكاييف لبوتين على الاستجابة السريعة لدعمه وإرسال القوات. أين أنقرة من كل ذلك؟ يقول الناطق باسم الخارجية الأميركية نيد برايس للصحافيين إن “الولايات المتحدة، وبصراحة ستراقب للكشف عن أي انتهاك لحقوق الإنسان قد تمهد للسيطرة على مؤسسات كازاخستان.. وسنترك حكومة كازاخستان لتبرر دعوتها إلى تدخل منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا”. هل هناك عملية إعادة آسيا الوسطى إلى الحضن الروسي في إطار تقاسم نفوذ مع أميركا؟
لم ترسل روسيا حتما قواتها إلى كازاخستان من دون مقابل. لماذا تعرض أرواح جنودها وتورطهم في مواجهات قتالية محتملة إرضاء للقيادة الكازاخية فقط؟ المقابل حدثتنا عنه الإعلامية الروسية مرغريت سيمونيان عندما قالت إن موسكو قدمت لائحة شروط ومطالب لنور سلطان مقابل دعمها العسكري بينها اعتراف كازاخستان بإلحاق روسيا للقرم وإنشاء قواعد عسكرية روسية في كازاخستان وحكم ذاتي للأقلية الروسية هناك. ألا يوجد صفقة أخرى حول تقليص العلاقات التركية الكازاخية في آسيا الوسطى خصوصا في مشاريع الممرات الاستراتيجية التجارية التركية؟
هل روسيا هي المستهدَفة هنا أم المستهدِفة؟ كيف سيكون شكل ارتدادات ما يجري على العلاقات التركية الروسية؟
الدولة العميقة الروسية تضع يدها بيد الدولة العميقة الأميركية وتقرران إعادة تقاسم المصالح والنفوذ في أكثر من بقعة إقليمية. المحادثات بين واشنطن وموسكو هي ترجمة لهذه التفاهمات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبحر الأسود وشرق المتوسط وشمال أفريقيا كما يرى البعض أيضا.
ردة فعل الصين حيال تطورات المشهد هناك ووقوفها إلى جانب روسيا تربك الحسابات التركية، وتدفعها للقلق من تفاهمات ثلاثية أميركية روسية صينية إقليمية على حسابها هذه المرة. هل تخلت بكين عن تنسيقها مع أنقرة في موضوع خط الحرير الذي تريد تركيا أن تكون شريكا أساسيا فيه لنقل البضائع من بكين إلى أوروبا؟ هل تقبل أوروبا والعواصم الإقليمية بهذه الصفقة الروسية الأميركية الصينية على حسابها؟
قول معروف في سياسات الواقعية والبراغماتية الدولية “لا أحد يحترم الضعفاء”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت