“إجراء دوري بعيد عن الواقع”، “لا تعكس الإيرادات والإنفاق”، “أداة علاقات عامة”، “أرقام خلّبية”.. تلك عيّنة من الأوصاف التي أطلقها محللون اقتصاديون، بعضهم موالون، تعليقاً على أرقام مشروع الموازنة العامة لسوريا، لعام 2023، التي أقرتها حكومة النظام، قبل أيام. فهل هي حقاً، أرقام “خلّبية” لا تعكس الواقع؟ يمكن أن نتفق مع معظم المحللين على عدم دقّة الأرقام المعلنة، خاصة مع عدم إصدار قانون القطع لموازنة العام الحالي والذي سبقه، وذلك يعني أن ما نُفّذ من الموازنات السابقة، وكيف نُفِّذ (حجم الإنفاق الحقيقي، والعجز)، غير معلوم للجمهور. لكن أرقام موازنة 2023، ليست “خلّبية”، بل توحي باتجاه اقتصاديّ واضح، أقرّ به المحللون ذاتهم الذين قللوا من جديّة تلك الأرقام.
فالقيمة الحقيقية لموازنة 2023 المقدّرة بـ 16,550 تريليون ليرة سورية، وفق سعر الصرف في السوق السوداء (5200 ليرة للدولار في دمشق)، هي 3,18 مليار دولار. أما موازنة العام الحالي، فكانت 13,325 تريليون ليرة، وكانت قيمتها الحقيقية حين إقرار مشروعها من جانب الحكومة، قبل عام من الآن، نحو 3,8 مليار دولار، وذلك استناداً إلى سعر الصرف في السوق السوداء حينها (3500 ليرة للدولار). أي أن القيمة الحقيقية لموازنة 2023 انخفضت 620 مليون دولار، بنسبة 16,31%، مقارنة بالتي سبقتها. فهي موازنة تقشفية. وبخلاف ما تذهب إليه بعض التحليلات، فإن موازنة العام الحالي، كانت “توسعية”، حين إقرارها. ذلك أن موازنة 2021 كانت بقيمة حقيقية 2,9 مليار دولار، وموازنة 2022 كانت أعلى منها بنحو 900 مليون دولار. وفي الموازنات التي سبقت موازنة 2022، وعلى مدار العقد السابق، كانت القيمة الحقيقية (محتسبة بالدولار)، تتراجع، سنوياً. باستثناء موازنة 2022، التي عبّرت –حين إقرارها- عن تفاؤل واضعي الخطط الاقتصادية حيال المسار المرتقب في العام التالي. وكان مرد ذلك التفاؤل حينها، يرجع إلى موجة الانفتاح السياسي من جانب دول إقليمية، على النظام، والرهان على انعكاسات اقتصادية لذلك الانفتاح. وهو ما لم يتحقق خلال العام 2022.
أما في مشروع موازنة 2023، يعبّر المخططون الاقتصاديون في دمشق عن رؤية معاكسة لتلك التي كانت لديهم قبل عام. فهم يتوقعون أن الوضع الاقتصادي سيكون باتجاه الأسوأ. فالنظام في إيران يواجه احتجاجات شعبية متفاقمة، والنظام في روسيا يغرق في المستنقع الأوكراني أكثر فأكثر. والاقتصاد العالمي يصبح أكثر قسوة على الدول الفقيرة والتي تتعكّز على الإعانات والدعم الخارجي. فيما الانفتاح الإقليمي على النظام يتراجع.
السمة التقشفية لموازنة 2023، انعكست بشكل صريح، ودون مواربة، في البنود المخصصة للدعم الاجتماعي. فقد تقلّص بنحو 600 مليار ليرة، مقارنة بما ورد في موازنة العام الحالي. ويظهر هذا التراجع بصورة أساسية في البند المخصص للدقيق التمويني، مما يؤكد الشائعات المتداولة برفع جديد لسعر ربطة الخبز المدعوم.
وبالانتقال إلى دعم المشتقات النفطية فقد ارتفع بالليرة بنسبة 11% فقط، فيما سعر الصرف الحقيقي تراجع 48% خلال عام. مما يعني خفض القيمة الحقيقية لدعم تلك المشتقات بنسبة 37%.
وبالانتقال إلى بند الرواتب والأجور، فإن مشروع الموازنة الجديدة لحظ زيادة بنسبة 33%. مما يعني أن الحد الأدنى للأجور حالياً (92970 ليرة)، قد يرتفع إلى نحو 125 ألف ليرة. وقياساً بسعر الصرف، كانت القيمة الحقيقية للحد الأدنى للأجور –حين إقراره نهاية العام المنصرم-، نحو 26 دولاراً. لكن قيمته الحقيقية الآن، نحو 18 دولاراً. أي أنه انكمش بنسبة الثلث. ويمكن تصور كيف ستنعكس هذه المعادلة -مع استمرار انهيار سعر الصرف- على “الزيادة” المرتقبة للأجور، خلال العام القادم.
وقد غابت تماماً أية إشارات “رسمية” لمخصصات دعم الخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة، والأهم، الكهرباء. وفي ملف هذه الأخيرة، تزداد المؤشرات على أن النظام يتجه نحو خصخصة شبه كاملة. فقد أصدر رأس النظام، يوم السبت، قانوناً جديداً، يسمح للمستثمرين بدخول مجال توليد الكهرباء بالطرق التقليدية. وهو ما يخالف خطاب النظام ذاته في الفترة الأخيرة، حينما كان يؤكد بأن توليد الكهرباء بالوقود الأحفوري، سيبقى مسؤولية “الحكومة”، فيما ستُوكل مشاريع توليد الكهرباء بالطاقات المتجددة للقطاع الخاص. وبناء على ذلك، يمكن الجزم بأن أسعار الكهرباء ستسجل قفزات كبيرة في الفترة القادمة.
أما كيف سيموّل النظام موازنة العام الجديد؟ فمن المعروف أن خطط التقشف عادةً ما تترافق مع زيادة الضرائب. ورغم أن الرسوم الضريبية والجمركية الباهظة، بإقرار مسؤولين بحكومة النظام ذاتها، تسببت بالمزيد من فرار رؤوس الأموال المحلية، وتوقف النشاطات الاستثمارية والتجارية، إلا أن أرقام الموازنة الجديدة تدفع للرهان بأن سياسات “الجباية الضريبية” العمياء، التي ميّزت العام 2022، ستتفاقم خلال العام القادم، مع تضاؤل دور البدائل الأخرى لتمويل الموازنة. فسندات الخزينة أثبتت محدودية مردودها وفق تجربة العام الحالي. أما الدعم الخارجي، في ظل التحديات التي تواجهها إيران وروسيا، لا يبدو رهاناً في مكانه. فيما طباعة أموال جديدة، تعني انفلاتاً أكبر للتضخم.
وهكذا، فإن الخبير الاقتصادي الذي نقلت عنه صحيفة “الوطن” المقرّبة من النظام، أن العام القادم سيكون أقسى معيشياً من العام الحالي، لم يكن مخطئاً. والنظام لا يخفي ذلك، بل على العكس، هو يريد تحضير السوريين للأسوأ. وهو ما تعكسه أرقام الموازنة الجديدة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت