تعالوا معي لنتذكر خارطة السيطرة على سوريا في سنتي 2013 و2014. بالرجوع إلى تلك الخرائط يمكننا القول إن نظام الأسد فقد السيطرة على معظم الأراضي السورية وبالأخص كل المناطق المحاذية للحدود العراقية، كما بات مطار دمشق الدولي شبه محاصر وتحت نيران المعارضة السورية المسلحة.
وبالرجوع إلى حالة قوات النظام، فقد أنهكها القتال على جبهات كثيرة وفقدت الكثير من عديدها بالانشقاق عنها وبالخسائر البشرية في صفوفها التي أصابتها في المواجهات وكذلك بامتناع غالبية السوريين عن التطوع فيها.
أما بالنسبة إلى السلاح، فقد تهالكت منظومة التسلح لدى قوات النظام وبالأخص سلاح الطيران الذي لم يتبق منه سوى بضع طائرات حربية متهالكة.
في هاتين السنتين ظهر سلاح جديد لدى قوات النظام، وتحديدا بعد تجريدها من السلاح الكيمياوي بعد مجزرة الغوطة المروعة. هذا السلاح هو البراميل المتفجرة التي كانت تلقى بواسطة الطائرات المروحية على الأحياء السكنية والقرى والمدن لتدمّر أيّ شيء وتقتل كل شيء.
فهل هي مصادفة شريرة أن تصل إلى مرفأ بيروت في تلك الفترة سفينة متهالكة محملة بأكثر من 2750 طنا من نيترات الأمونيوم؟
يؤكد عدد من الخبراء أن ما تفجر في مرفأ بيروت أكثر من أربعمئة طن من نيترات الأمونيوم. أين ذهبت الـ2350 طنا يا ترى؟
من المعلوم أن حزب الله اللبناني بدأ تدخله العسكري إلى جانب النظام السوري قبل سنة 2012، ولكن تدخله المنظم والواسع بدأ من بوابة الهجوم على منطقة ومدينة القصير جنوبي حمص ربيع عام 2013 حيث شرد أهلها باتجاه جرود شرقي لبنان واستقروا في مخيمات عرسال.
ومن المعلوم أيضا أن حزب الله عزز سيطرته في تلك المرحلة في مرفأ بيروت وأقام له خطا خارج إطار سيطرة الأجهزة الرسمية اللبنانية. فالبضائع التي تخصه لا تخضع للمراقبة والتفتيش والرسوم التي تخضع لها باقي البضائع. ولا يتحرك أيّ من أجهزة الدولة اللبنانية بالتالي، للتدقيق في طبيعة تلك البضائع أو في وجهة استعمالها أو في الوجهة التي يمكن أن تقصدها سواء داخل لبنان أو خارجه.
وقد صار واضحا، نتيجة ما نشر من وثائق ومراسلات حول البضائع المتروكة في العنبر رقم 12 (الذي يجهل اسمه ورقمه حسن نصر الله)، أن جميع الأجهزة والإدارات المسؤولة عن مرفأ بيروت كانت تعرف مدى خطورة بقاء هذه البضائع في مكان عام مزدحم، وأنها تبادلت الرسائل في أكثر من اتجاه وأنها أبلغت القضاء والوزراء والرؤساء بوجود مواد خطيرة شديدة الانفجار في العنبر.
وربما يكون العقيد جوزيف سكاف أول الضحايا اللبنانيين لشحنة نيترات الأمونيوم بعد أن أرسل سنة 2014 لمن يعنيهم الأمر كتابا بضرورة إبعاد هذه الشحنة (التي كانت لازالت على متن الباخرة روسوس التي كانت ترسو على الرصيف رقم 11) لشدة خطورتها. وبدل أن تبعد السفينة بما حملت تم إفراغ الحمولة وتكديسها في العنبر رقم 12 ثم تركت السفينة إلى أن غرقت في مياه المرفأ. ومات جوزيف سكاف في ظروف غامضة بعيد تقاعده سنة 2017.
كل الصور التي تناقلها الإعلام للعنبر رقم 12 تبين بوضوح أن الأكياس التي احتوت مادة نيترات الأمونيوم كانت ممزقة وأن الكثير منها كان فارغا تماما. الأبواب مفتوحة وهناك فتحة في الجدار أيضا ولا وجود لأيّ حراسة على المكان. أين ذهبت أطنان هذه المادة المتفجرة؟ ومن بإمكانه تهريبها؟ ومن أين حصل نظام الأسد على أطنان المتفجرات التي حشا بها براميله التي ألقاها على المدن والقرى السورية؟
في المرحلة التي تلت التدخل الروسي العسكري إلى جانب النظام الأسدي، وحيث تمكن النظام من استعادة السيطرة على غالبية المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة المسلحة، وبعد أن فتح طريق الإمداد العسكري من طهران إلى دمشق، وبعد أن استعادت قوات النظام تسليحها عن طريق الروس والإيرانيين، يبدو أن أهمية البضاعة المخزنة في العنبر رقم 12 قد تراجعت، فأهملت إلى أن أقام جهاز أمن الدولة له نقطة في المرفأ.
وكان لقاء جمع بين المدير العام لجهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا وأحد مستشاري رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب في منزل صديق مشترك، مساء يوم الـ3 من يونيو الماضي، حيث روى صليبا لمستشار دياب كيف أنّ جهازه استطاع ضبط كميات من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، شارحاً ما تمثله من تهديد للعاصمة. على الفور، أجرى المستشار اتصالاً هاتفياً بدياب، وأبلغه بما سمعه من المسؤول الأمني، فاهتم رئيس الحكومة كثيراً بالأمر، وطلب التحضير لجولة له على المرفأ في صباح اليوم التالي لمعاينة عنبر الأمونيوم في حضور صليبا، على أن ينتقل بعد هذه الجولة إلى قصر بعبدا للمشاركة في اجتماعٍ كان مقرراً لمجلس الدفاع الأعلى.
لكنّ قيادة أمن الدولة تلقّت لاحقا اتصالاً باسم السرايا الحكومية وَرد فيه أنّ زيارة رئيس الحكومة إلى المرفأ في اليوم التالي قد أُلغيت، لأنّ هناك جهة موثوقة من قِبل دياب أفادته بأنّ المسألة “ما بتحرز”، والمواد الموجودة في العنبر ليست من النوع المتفجّر بل هي سماد زراعي. كان ذلك قبل شهرين كاملين من الانفجار الكبير. هل يجرؤ حسان دياب أن يُطلع اللبنانيين والقضاء المختص على اسم الشخص أو الجهة التي أوعزت له أن يلغي زيارته لمرفأ بيروت؟
لاحقا، وفي 20/6/2020 أرسل جهاز أمن الدولة رسالة إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة تتضمن شرحا عن مدى خطورة بقاء هذه البضاعة على أرض المرفأ وطلب اتخاذ الإجراءات العاجلة لإزالتها. كل تلك الوثائق وسواها تؤكد أن الرؤساء والوزراء وخصوصا وزراء الأشغال والداخلية والعدل والمالية، وسواهم، المتعاقبين على السلطة منذ سنة 2014 وكذلك رؤساء الأجهزة الأمنية والإدارية المولجين في عمل مرفأ بيروت كانوا على علم بوجود قنبلة ضخمة تنام تحت رؤوس اللبنانيين ولا يعلم أحد بموعد انفجارها. كلهم كانوا يعرفون، فلِمَ كان ذلك الصمت عن الجريمة؟
أسبوعان فصلا بين رسالة أمن الدولة إلى الرئيسين التنفيذيين في الدولة، رئيس مجلس الدفاع الأعلى رئيس الجمهورية، ونائب رئيس مجلس الدفاع الأعلى رئيس الوزراء، وبين الانفجار الكبير. أسبوعان كانا كافيين لإنقاذ المدينة وأهلها.
حوالي الساعة من الزمن فصلت بين اشتعال النيران في العنبر رقم 12 أو على مقربة منه وبين الانفجار. ساعة كانت كافية لإخلاء المنطقة وتجنيب سكانها الموت.
والجريمة الأفظع أنه حين اندلعت النيران في العنبر رقم 12 قبل حوالي ساعة من الانفجار، وحين بادر فوج إطفاء بيروت للتوجه إلى مكان الحريق لإخماده، لم يقم أيّ من المسؤولين، الذين يعلمون مدى خطورة ما يحتويه هذا العنبر، لا بثني فوج الإطفاء عن الذهاب ولا حتى بالطلب من العاملين والمتواجدين في المرفأ وفي محيطه أن يخلوا المنطقة حرصا على سلامتهم. لم يبادر أحد منهم، يعني أن أحدا منهم لم يكن حريصا على أرواح الناس بمن فيهم فوج الإطفاء الذي سقط بالكامل على بوابة العنبر.
وبالعودة إلى سوريا، لا تزال آثار البراميل المتفجرة ترتسم في الخراب الهائل في أحياء حلب وبابا عمرو والرستن والغوطتين وإدلب ومعرة النعمان وكل المدن والقرى التي كانت خارج سيطرة النظام، كما لا تزال صور الذين قضوا حرقا تحت الصف أو غرقا في مياه البحر تحفر في الذاكرة. أما المسؤولون عن كل ذلك فلم يطلب لهم أحد ممن يمتلكون القدرة على المحاسبة أيّ حساب.
فهل حملت سوريا بمدنها وقراها وأهلها عن بيروت النصيب الأكبر من الجريمة ذاتها التي لو حملتها بيروت منفردة ربما لكانت قاعا صفصفا؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت