بلغة الماركسية التقليدية، تكون البنى الاقتصادية التحتية الدافع والمحرّك الرئيسي للسلوك السياسي والثقافي والأيديولوجي داخل منظومة العلاقات الاجتماعية ـ السياسية. وبهذا المعنى، تنشأ الحركات الاحتجاجية بالأساس نتيجة وضع اقتصادي ما فرض نوعا من العلاقة بين قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج. ويؤدي الخلل في العلاقة بين هذه وتلك إلى حدوث ثورة، وكم من دراسة ماركسية أكّدت، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، على أهمية العامل الاقتصادي في تفسير السياسي، وكأن الثاني امتداد حتمي للأول. ومع أن هذه الصيغة لم تعد مقبولة لدى الماركسيين الجدد (غرامشي، ألتوسير، مور)، كون حتمية النموذج الإنتاجي لا تلعب دورها كاملا إلا في لحظات تاريخية نادرة، فإن البعد الاقتصادي ظل له الأولوية مع العوامل الأخرى السياسية والثقافية.
ووفق هذه المقاربة، يبدو الوضع الاجتماعي ـ السياسي في سورية قاب قوسين أو أدنى من الانفجار نحو اندلاع حركة احتجاجية جديدة، نتيجة الانهيار الحاصل في الاقتصاد والخلل الكبير بين قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج. وقد وصلت الأوضاع في مناطق سيطرة النظام إلى نقطة الصفر الاقتصادي، مع انعدام كل مقومات الحياة التقليدية، وعجز ملايين السوريين عن تأمين قوت يومهم. وإذا ما اعتمدنا الرؤية الماركسية الجديدة التي تضع العوامل السياسية إلى جانب العوامل الاقتصادية، تصبح الحالة الاجتماعية السورية أقرب إلى الانفجار، فثمّة انسداد في البنية الفوقية (سياسي) وثمّة انسداد يقابله في البنية التحتية (اقتصادي).
لكن التاريخ الاقتصادي والسياسي للمجتمعات، وكذا الدراسات السياسية ـ السوسيولوجية الحديثة، تجاوزا مسألة الربط بين الانسداد الاقتصادي ـ السياسي والفعل الاحتجاجي. وقد بينت الدراسات المقارنة الحديثة أن ثورات كثيرة اندلعت في ظل أوضاع اقتصادية مريحة، في حين لم تشهد بلدان أخرى حركات احتجاجية، على الرغم من أوضاعها الاقتصادية المزرية.
وفي دراسته لشخصية توماس مونتسر، قائد ثورة الفلاحين في ألمانيا عام 1525، شدد الفيلسوف الماركسي أرنست بلوخ (1885 ـ 1977) على العوامل ما فوق الاقتصادية، فإذا كانت الشهوات الاقتصادية فعلا هي الأشد ضراوة وثباتا، فإنها ليست الوحيدة، ولا هي الأقوى على المدى الطويل، وهي لن تشكّل الحوافز الأكثر خصوصية للنفس البشرية، خصوصا في الحقب التي تهيمن فيها العاطفة الدينية. ثم لاحظ أن في مواجهة الأحداث الاقتصادية، أو بالتوازي معها، لا نرى على الدوام القرارات الحرّة الإرادية فحسب، بل أيضا أبنية روحية ذات أهمية كونية مطلقا، وليس في وسعنا أن ننفي عنها واقعا هو في أدنى الأحوال سوسيولوجي. وما يهمنا في دراسة بلوخ أن العوامل المؤثرة في الفعل الاحتجاجي على المدى الطويل ليست اقتصادية، بل روحية، لأنها تعتبر الأكثر خصوصية للنفس البشرية. ولا يعني ذلك أن الديني هو الحافز الرئيسي للثورات المعاصرة، فالزمن اختلف، والأثر الديني المهيمن على المخيال الإنساني قد تراجع.
تماشيا مع هذا، تذهب دراسات حديثة إلى أن العنف لا يشكل سببا للاحتجاج. وهنا يتساءل إيمانويل فالرشتاين، ما الذي يحشد التأييد الشعبي؟ لا يستطيع المرء القول إن ذلك يعتمد على درجة القمع، فالقمع من الثوابت في أغلب الأحيان، وهو بالتالي لا يفسّر كيف أن الناس الذين استفزوا في لحظة معينة لم يكونوا أصلا مستفزين في السابق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن القمع الشديد قد يفعل فعله في أكثر الأحيان، فيدفع المتمرّدين إلى الامتناع عن المشاركة النشطة في تلك الحركة… ما يحشد الجماهير ليس القمع، بل الأمل واليقين، أي الإيمان بأن نهاية القمع أصبحت وشيكة، وأن عالما أفضل أصبح ممكنا.
تبدو مقاربة فالرشتاين أقرب إلى الموضوعية تجاه الحالة العربية والسورية، فاندلاع الثورات في لحظة تاريخية معينة لا يكون لأسباب اقتصادية وسياسية، لأن هذه الأسباب موجودة سابقا، وبالتالي لا تفسر لحظة الانفجار الثوري. إنه الأمل في إمكانية التغيير ونجاحه الذي تحدّث عنه عزمي بشارة في كتابة “الثورة والقابلية للثورة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2012) هو الذي يقود إلى الفعل الاحتجاجي. وإذا كان الأمل واللايقين سببا في اندلاع الثورة عام 2011، فإنهما اختفيا الآن بعد العشرية الأولى للثورة السورية، ليحل محلهما اليأس، واليقين بعدم إمكانية نجاح أي فعل احتجاجي ثان، بعدما خبر الشعب السوري، على مدار السنوات السابقة، حجم الإجرام الذي قام به النظام، وبسبب قناعة الناس بعدم إمكانية حصول تدخل دولي.
اللايقين هو الذي يستدعي الأمل، لأنه في حالة اللايقين ثمة إمكانية للفعل وتوقع النجاح، ليس ثمّة ما يعزّز الأمل واللايقين أكثر من النجاح. وفي غياب توقع النجاح، يستحيل اللايقين يقينا ويستحيل الأمل يأسا. وفي محاولته التشكيك في الأطروحة التي تربط الفقر بالعنف، أكد عالم الاجتماع الهندي، أمارتيا سن، أن الفقر لا ينتج بالضرورة الاحتجاج العنيف، فالناس الذين أنهكهم الحرمان يمكن أن يصبحوا ضعفاء للغاية، ومستلبين وبائسين جدا إلى حد عجزهم تماما عن النضال، وليس مفاجئا أن المعاناة الشديدة والإجحاف قد زامنهما سلام ملفت للانتباه.
حدوث ثورة ثانية في مناطق سيطرة النظام السوري تبدو مسألة صعبة، بسبب المعطيات سابقة الذكر، لكن الحياة الإنسانية كثيرا ما تفاجئنا بسلوكياتٍ تعجز النظريات عن تفسيرها، إلا بأثر رجعي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت