في تصريح ربما كان مباغتاً أكّد نائب وزير خارجية كازاخستان (كانات توميش) على أن اللقاء العشرين سوف يكون خاتمة لقاءات مسار أستانا، وبعيدا عن الدوافع التي تكمن وراء هذا القرار، أهو قرار ذو صلة بالدولة المضيفة أو بجهة أخرى، يمكن الذهاب إلى أن هذا القرار لا يمكن أن يكون بمعزل عن تحوّل نوعي في سيرورة هذا المسار، إذ ثمة معطيات كثيرة تشير إلى أن شيئاً ممّا هو مطلوب قد تحقق، وما بقي ربما يقتضي شكلاً آخر من التعاطي حتى لو ظلّت التفاهمات جارية تحت مسمّى (مسار أستانا).
لكن جوهر المشكلة بالنسبة للسوريين المناهضين لسلطة الأسد لا تكمن في تقييم مفرزات أستانا، باعتبارها خرجت عن إطار التأويل والتوقعات وباتت حقائق جلية للعيان، بل ربما تموضع الجانب الأكبر من الكارثة بمن ادعى تمثيلهم في هذا المسار، وهو يحمل إصراراً كبيراً على إقناع السوريين بأن الكوارث التي حلّت بهم هي نعم عظيمة، وربما لولا أن منّ الله على عباده السوريين بسحائب أستانا لاحترقت الديار السورية على بكرة أبيها، هذا بالطبع ما يثابر على المجاهرة به رؤساء وأعضاء وفود أستانا من المعارضات السورية، إذ يؤكدون بملء الفم أن مسار أستانا هو الذي ضمن وقف إطلاق النار للحفاظ على الأرواح، ولولا الرادع الأستاني لأجهز النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون على ما تبقى من مواطنين وفصائل وأرض وشجر وزرع وضرع، وكذلك لولا الحصانة التي منّ الله بها على السوريين من خلال تسخير الدول الضامنة لهذا المسار (روسيا وإيران وتركيا) لاندثرت القضية السورية وأصبحت أثراً بعد عين.
مثل هذا الكلام وما يشبهه كثير، وربما لم يعد يستغربه السوريون الذين كانت لديهم مناعة متراكمة سابقة تكونت عبر عقود من الزمن، أدمنوا فيها سماع خطاب الممانعة والمقاومة من نظام الأسد ومشتقاته المحلية والإقليمية حين برعت في تصوير الهزائم والكوارث على أنها مُنجزات عظيمة، لمَ لا وما يزال إعلام نظام الأسد يؤكد أن جلّاد سوريا ما يزال شوكة المقاومة الأبرز في حلق الصهيونية والإمبريالية العالمية، في حين يعلم القاصي والداني أن بشار الأسد يدين في وجوده واستمراره في السلطة حتى الآن إلى رفض إسرائيل لفكرة زواله أو استبداله.
أمّا ما جرى ويجري على الأرض من حقائق ووقائع منذ بداية العام 2017، أي على أعقاب سقوط حلب الشرقية وانطلاقة مسار أستانا وحتى الآن، فهو إمّا ضربٌ من الوهم، أو هو من صنيع جهات أخرى مجهولة لا صلة لها بنظام الأسد أو روسيا أو إيران، أو بالأحرى ليس مطلوباً تحديد الجهة الفاعلة طالما أن معارضات أستانا في غاية الالتزام والتمسك بالمواثيق والعهود، وبالفعل هذه نقطة مهمة تُحسب لهم ولا أحد يجحدها، وذلك من جهة إخلاصهم الشديد لتعاليم الجهة الضامنة التي تكفّلت باستمرار انضباطهم والتزامهم الصارم بالتعليمات.
وبالفعل لم يجد السوريون أيّة ردّة فعل لمعارضات أستانا (السياسية والعسكرية) من شأنها الإخلال أو خدش الثقة لمن تحمّل تبعات ضمانتهم، في حين نجد أن الجهة الأخرى، أي جهة النظام وحلفائه، هم في حلٍّ دائم من أي التزام، بل يمكن التأكيد على أن أرواح السوريين وأرضهم وديارهم ظلت مستثناة من أي ضمانة فعلية، ذلك أن الحقائق تقول: إن مناطق ما يسمى (خفض التصعيد) والتي من المفترض أن تكون بمنأى عن العدوان الأسدي الروسي، استبيحت جميعها وسيطرت عليها قوات الأسد، وقُتل من قُتِلَ من أهلها، وتشرّد من تشرّد، ولا يمكن لذاكرة السوريين أن تلغي من مكنوناتها تهجير سكان الغوطة الشرقية وداريا والزبداني والقلمون ودرعا في عامي 2018 – 2019، وكذلك لا يمكن لسكان سراقب وخان شيخون ومعرة النعمان وبقية ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي وسكان الريف الغربي من حلب، أن تتجاوز نفوسهم ومشاعرهم ما واجهوه في شهر شباط من العام 2020 حين أطبقت عليهم طائرات بوتين من الجو ومدافع النظام من الأرض، فهاموا على وجوههم، وأصبحوا بين عشية وضحاها سكاناً للخيام أو مشردين يستظلون بأشجار الزيتون.
بل ربما المفارقة التي تكررت على امتداد مسار أستانا هي تزامن التصعيد الروسي باستهدافه للمدنيين مع انعقاد أي لقاء من لقاءات أستانا، بل يمكن التأكيد على أن اللحظات الأولى لبدء الجلسة الأولى في لقاء أستانا الأخير تزامنت مع استهداف جوي روسي لمحيط مدينة إدلب، وتحديداً في منطقة الشيخ بحر التي يوجد فيها أكثر من مخيم للنازحين السوريين، وذلك في تأكيد واضح من جانب الروس بأن استهدافهم لسكان المخيمات والنازحين إنما هو نزوع نحو استئصال بشري للسوريين وليست حرباً محكومة بأي ضابط أو رادع قيمي آخر.
تصرّ معارضات أستانا في نسخته العشرين على أنها حققت مُنجزاً عظيماً أعاد القضية السورية ووضعها في المسار الصحيح، ويتمثّل ذلك في تركيزها وحوارها مع الروس (وهذا أمر مشكوك فيه طبعاً لأن أعضاء وفد المعارضة من عسكريين وسياسيين لا يشاركون في الجلسات الرسمية على الغالب، فقط يُطلب منهم الذهاب، ولا يعلمون شيئاً عما جرى بين الأطراف الضامنة إلا بعد نهاية الجلسات، وفقط ما يبلغهم به الطرف التركي، بل غالباً ما استطاعت وسائل الإعلام أن تسبقهم في الحصول على المعلومة)، ومع ذلك فإن الملفات التي تمت إثارتها في اللقاء الأخير تؤكد أنها أقرب إلى مصالح الضامن ونظام الأسد، فالتقارب التركي مع الأسد، ووضع خطة طريق أو جدول زمني للترتيبات الأمنية بين الطرفين، بما في ذلك الدخول التدريجي لمؤسسات النظام المدنية إلى بلدات ومدن الشمال، وكذلك ترتيب لقاءات بين قادة فصائل ومخابرات الأسد، ولعل مثل هذه الأمور وسواها تبدو في إطار أستانا أكثر أهمية من قضية المعتقلين والمعتقلات في سجون الأسد على سبيل المثال.
على أية حال، لا يبدو تغيير مكان انعقاد لقاءات أستانا إلى بلد آخر أنه سيغيّر في جوهر الأمر شيئاً، إذ يمكن التأكيد على أن اللقاءات الرباعية التي تجمع (نظام الأسد وتركيا وإيران وروسيا) باتت هي الامتداد الحقيقي لمسار أستانا، ولكن الفارق الوحيد ربما يكون بالاستغناء عن وفود المعارضة السورية في اللقاءات المقبلة، وربما سيكون هذا الاستغناء عن الدور الوظيفي لمعارضات أستانا هو قضيتهم الأساسية التي لن يبقى لهم سواها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت