ينشغل المثقفون والناشطون السوريون من جميع الاتجاهات السياسية والفكرية هذه الأيام في البحث عن مخرج من الحال الكارثية التي آلت إليها بلادهم بعد عشر سنوات دامية من الصراع. المسألة ليست سهلة، والمخرج غير واضح، والكلّ يتلمس طريقه في العتمة، من دون نتيجة، خصوصا أن قدرة السوريين على التأثير في مستقبل بلادهم تتقلص باستمرار، مع تكرّس الوجود الأجنبي فيها، وبلوغ جمهور النظام والمعارضة حافّة الانهيار.
لا يجب أن يكون هناك خلاف كبير بين السوريين بشأن أن بلادهم باتت، منذ السنة الثانية لثورتها، ساحة صراع لقوى إقليمية ودولية لا تقيم وزنا لمصالحهم، ولا تأبه بمصيرهم. هذا يجب أن يقرّ به الجميع خطوة أولى نحو الخروج من المأزق، فإيران لم تهرع لمساعدة النظام حبًا فيه أو وفاءً له، بل وجدت في الصراع فرصةً لاستكمال بناء قوس نفوذها الإقليمي، خصوصا مع خروج الأميركيين من العراق عام 2011. وعندما يئست من ذلك، مع احتدام الصراع على سورية، اقتصر اهتمامها في السيطرة على “كوريدور” برّي، وإنشاء سلطات موازية، تؤمن وصولها إلى حليفها في لبنان، حزب الله. بالنسبة لإيران، ليست سورية سوى خط دفاع، أو ساحة صراع، تمنع عبرها انتقال المعركة إلى طهران وقم وأصفهان، وهي من ثم غير معنية بدمارها، تقسيمها، أو حتى بفناء أهلها، من النظام أو المعارضة، لا فرق ما دامت المعركة تظل بعيدة عن أرضها. دول الخليج العربية لم تكن يوما مهتمةً بمساعدة الثورة في الوصول إلى نظام ديمقراطي، يحقق للسوريين تطلعاتهم في حياة حرّة كريمة، بل وجدت في سورية ساحة صراع لاستنزاف إيران، وكسر قوس نفوذها الذي بات يهدّد الخليج بعد انهيار العراق. ينطبق الأمر نفسه على الروس والأتراك والأميركيين والأوروبيين وغيرهم، كلّ يطمح إلى تحقيق مصالحه في بلدٍ يحظى بأهمية استراتيجية، لا تسمح بتركه للآخرين.
بالنتيجة، تجثم على الأرض السورية اليوم خمسة جيوش أجنبية وتوابعها، تهدّد وحدة سورية وكيانها السياسي، مع ظهور توجّه أميركي إلى الاعتراف بالإدارة الكردية في مناطق شرق الفرات، ووجود توجه تركي إلى إقامة كانتون في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غرب البلاد، ومنطقة “آمنة” في مناطق سيطرة فصائل “الجيش الوطني” في الشمال، واستماتة إيرانية للاحتفاظ بالكوريدور الواصل بين البوكمال والحدود اللبنانية، وتوافق روسي – إسرائيلي على منطقة عازلة في الجنوب تمنع الوجود الإيراني على الحدود، وسيطرة روسية على الساحل السوري بموانئه وحصّة سورية فيه من نفط شرق المتوسط وغازه.
لقد صرف السوريون السنوات العشر الأخيرة في الصراع على رؤيتهم سورية ومستقبلها. أما وقد باتت سورية نفسها مهدّدة بوجودها، فقد صار لزامًا الارتقاء إلى مستوى الخطر المحيق بها. ويتحمّل النظام هنا المسؤولية أكثر من غيره، إذ يبقى في موقع أفضل للمبادرة ومد اليد للتوصل إلى حلٍّ يسمح بجمع السوريين حول صيغة إنقاذ، بعيدا عن الأجندات الخارجية والمصالح الضيقة. أما العناد والاستمرار في ادّعاء النصر فلن يؤدّيا إلا إلى انهيار كامل للبلد الذي يصرّ النظام على حكمه، فأيّ نصرٍ هذا ونحو 40% من الأراضي السورية، بما فيها من ثروات، خارج السيطرة؟ وأي نصرٍ ذاك، والنظام عاجز عن إطعام السوريين تحت حكمه، دع جانبا توفير الخدمات لهم؟ وماذا عن المليشيات والمرتزقة التي تعيث في سورية؟ المعارضة مطالبة بأن تتحلّى بالشجاعة، وتبدأ تبنّي خطاب قد لا يروق لجمهورها، فالقيادة الحقيقية لا تكون في إسماع الناس دائما ما يحبون، بل في إسماعهم أحيانا ما لا يحبون. من المهم أن تعلن المعارضة، في هذه المرحلة، رفضها سياسة تجويع السوريين في مناطق النظام، كما رفضت سياسة النظام في تجويع السوريين في مناطقها، ولنستعد فعلًا، لا قولاً، شعار “الشعب السوري واحد” الذي أطلقته الثورة في يومها الأول.
يبقى أن نقرّ بوجود نقاط توافق جوهرية عديدة بين النظام والمعارضة، يمكن أن تشكل أرضية لحوار حقيقي نحو الحل، أهمها الاتفاق على وحدة الأراضي السورية، ورفض أي نزعات انفصالية، والتأكيد على سيادة سورية واستقلالها، وخروج كل القوات الأجنبية من جيوش ومليشيات منها، ورفض تحويل سورية إلى أرض جهاد أو ساحة صراع لأيٍّ كان، ورفض سياسات المحاور والانخراط فيها، واعتبار الجولان أرضا محتلة لا مساومة عليها. إذا لم نستطع أن نبني على هذه النقاط، سوف يتحمّل النظام مسؤوليةً تاريخية عن انهيار البلد وتفكّكها، وإذا لم تتجاوب المعارضة سوف نبكي، كما قالت أم عبد الله الصغير، بحسب الرواية، “كالنساء وطنًا لم نستطع أن نحافظ عليه كالرجال”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت