تتالت مطالبات نظام الأسد بعد سيطرته على حلب الشرقية في نهاية عام 2016 والغوطة الشرقية في آذار 2018 وتهجير سكانهما؛ بعودة اللاجئين من أجل إعادة الإعمار ورفع العقوبات الغربية المفروضة عليه نتيجة الحرب التي شنها على الشعب السوري بعد انطلاق الثورة في 2011. وما بين شروط الدول الغربية بإلزامية حدوث انتقال سياسي في سوريا وخلق بيئة آمنة من أجل عودة اللاجئين والبدء بإعادة الإعمار، يبقى السؤال المطروح: كيف سيعود اللاجئون وهل يريدون العودة؟ والسؤال الأكثر تعقيداً الواجب طرحه: هل يريد الأسد عودة اللاجئين فعلاً؟!
نظرية الأسد للمجتمع المُتجانِس
يُعرَّف المجتمع المتجانس بأنه المجتمع الذي يحتوي على تعددٍ إثنيٍ وعرقي وتَسودُ فيه حرية الرأي والتعبير واحترام المجموعات المختلفة بعضها لبعض ومشاركَتِها في السلطة[1]، أما أن يصبحَ مفهومُ التجانس هو تهجير الناس من بيوتهم واستِجلابُ المرتزقة من الدول الحليفة للاستبداد من أجل توطينهم في سوريا؛ فهذه نظرية الأسد للتجانس التي تُفضي إلى بقائه في السلطة مهما كان الثمن أو التنازلات.
كانت نظريةُ الأسدِ واضحة منذ بدايات الثورة، حيث حاول تحييد الحراك المطالب بالحريات من خلال القَمعِ الوحشي، ليكون ذلك رادعاً لبقية الشعب ليضمن بقاءه مُستكيناً صامتاً، كما عمل خلال تسويقه الإعلامي على إظهار أبناء هذا الحراك على أنهم مُندسون وجراثيم وإرهابيون مدعومون من قوى خارجية، ومع مرور الوقت أصبح خطابه أكثر تبلوراً ضمن محورين أساسيين، أولهما؛ أنه “على الرغم من الخسارة في الفئة الشبابية خلال 10 سنوات والدمار الذي حلَّ في البنية التحتية للمدن؛ لكن المجتمع أصبح صحيحاً وأكثر تجانساً”[2]، وثانيهما؛ أن الأرض ليست لمن وُلد بها ويحمل جنسيتها من أبويه، بل لمن يدافع عنها من الإرهاب الذي يُحدد ملامِحه وصِفاته نظامُ الأسد، وبالتالي أصبح المرتزقة من الأفغان والعراقيين واللبنانيين والإيرانيين ينتمون إلى سوريا ولهُم الحق في منازلِ الذين قُتلوا أو اعتُقلوا أو هُجّروا من أرضهم لمجرد أنهم أحبّوا البلاد كما لم يُحِبَّها أحد، فأولئك المرتزقة هم من سيحققون أحلامَ الأسدِ في مجتمع الدُمى الصامتة الذي يَحلُم به، ويحارِبُ أيَّ جهةٍ أو جماعةٍ أو محاولةٍ للمساسِ بالتجانُسِ المُزيفِ الذي يَصنَعُه.
حزب البَعث والقابلية للاستبداد
بين جَنبات الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي استمرَّ لأكثرَ من 100 عام، بَنى المُفكر مالك بن نبي نظريته “القابلية للاستعمار”، حيث اعتبر أن أدوات المُحتل أو المُستبد مهما احتوَت على عناصرِ قوةٍ وهمجيةٍ أو حتى تطورٍ عسكري، غير كافية لإخضاعِ الشعوبِ واحتلالها أو جعلها تستسيغ العبوديةَ والذُلّ، ذلك أن الشعوبَ التي تُحتَل بلادُها تكون قد احتُلت نفسياً وأصبحَ لديها قابلية للخنوع والطاعة قبل أن تُنهب أراضيها أو تستبيحها جيوش العدو، لذلك تحتاج تلك الشعوب إلى فتراتٍ كافية بعد التحرر من محتليها كي يستعيد العقل الجمعي للشعب أفكاره عن الحرية والديمقراطية وحتى عن التعايش بين فئاته، لأن المحتل يَعبث دائماً في التركيبة الاجتماعية للبلاد فإما يُقسِّمُها بناءً على الطوائفِ كما فعل الاحتلال الفرنسي في سوريا بإنشاءِ دولٍ للدروز والعلويين أو بِناءً على القوميات أو حتى من خلال اعتماده على الإقطاعيين الذين يكونون يَده في ضبطِ الناس وتجويعهم واستغلالِهم.
وبالنظر إلى التاريخ السوري، نرى أن المجتمع عاشَ أقلَّ من 4 سنواتٍ فعلياً بين التحرر من فرنسا وحُدوث أولِ انقلابٍ عسكري، وأقلَّ من 17 عاماً بين التحرر من فرنسا وانقلابِ البعثِ الذي أنهى بشكلٍ قطعيٍ أيَّ عملٍ مدني أو نقابي أو تجاربَ حزبية حقيقية في سوريا، مما يعني أن المجتمع لم يَكن قد تعافى بعد إذ لم تتبلور هويته الوطنية الحقيقية ما بين احتلال وانقلابات عسكرية متتالية وضعف الخبرة السياسية واستجلاب مشاريع إقليمية لإسقاطها على الواقع السوري، فأتى حزب البعث إلى مجتمعٍ يَحمِل مؤشرات القابلية للاستبداد، فهو مجتمع مرهق اقتصادياً بسبب انقلاباتٍ عسكريةٍ متتالية، ومصاب بخيبةٍ عميقة من فشلِ محاولات الوحدة العربية، وشاهد على صراعات سياسية بين نُخب منفصلين عن الناس ومطالبِهم.
هل لدى الجيل القادم القابلية لِتَقبُّل الاستبداد؟
استمرَ البعثُ في حُكم البلاد وسط تأسيسه لمملكة الصمت التي استمرت جيلين من حكم عائلةِ الأسد، تخللها اجتياحُ حماة وحربٌ مفتوحة على حركة الإخوان المسلمين واحتلال لبنان والعبث بأمنِ المنطقة عبر دعم الحركات المتطرفة مثل حزب العمال الكردستاني وحزب الله والجماعات الجهادية الهلامية التي أنشأتها المخابرات السورية، ثم اندلعت الثورة السورية التي فاجأت الدول المجاورة والغربية بقدر ما فاجأت نظام الأسد.
كان مُحرك الثورة فئتين من الشباب، أولهما من عاش بنِصفِ ذاكرة مُحملة بأصداء مجزرة حماة التي استُشهد فيها أكثر من 40 ألف شخص، أو حول سجون الأسد المخفية التي يُنسى فيها الناس، وثانيهما من عاشَ بذاكرةٍ بيضاء لا يعرف عن الأسد إلا أنه القائد الخالد الذي جاء ابنه ليَرِثَ مسيرةَ التطوير والتحديث، وبعد اندلاع ثورات الربيع العربي وهروب بن علي وتنحي مبارك وحرق عبد الله صالح كانت الذاكرة البيضاء مهيّأة لتحلُم بميادين دمشق وحمص وحماة وهي تحتفل بزوال الأسد، بعيداً عن مخاوف ثوار نصف الذاكرة الذين كانوا يدركون جيداً أن كلفة زواله ستُدفع عن أجيال صمتوا على ظُلمه فكانوا أعواناً له من دون إرادة منهم.
ومع استمرار أمد الثورة السورية، شَهِد جزء من الجيل الجديد مراحل الثورة وهو يَحمِل ذاكرةً خضراء مُفعمة بكل مظاهرة أو انتصار، وأيضاً مُثقلة بكل تهجير أو قصف أو اجتياح، لكنها في الوقت ذاته خالية من صور القائد الخالد المفروضة على كل تفاصيل الحياة اليومية، أو اللهجة التي تكفي لتُفتح بها الأبواب وترجف لها القلوب وينال صاحبها مناصب مرموقة في الدولة، ولا تملك تجارب سياسية مُحملة بالتجاذبات، يُضاف إلى ذلك من لجأ منهم بعد التهجير إلى مدن عدة حول العالم ناقلين معهم قضيتهم أو حتى أحلامهم البسيطة لوطن يعيشون من أجله قبل أن يموتوا لأنهم بقوا فيه.
هُجِّر من سوريا أكثر من 6 ملايين شخص إلى ما يزيد على ثلاثين دولة، أغلبها دول لا تملك نظاماً استبدادياً مركزياً يراقب تحركات المواطن بدل أن يرصد احتياجاته، ناهيك عن وجود مساحة للعمل المدني في هذه الدول حيث يحق لكل شخص سواء كان لاجئاً أو مواطناً أن يُنشئ مؤسسته أو منظمته التي تهتم بقطاعٍ معين، مما أغرى عدداً ضخماً من الشباب السوريين المنتمين للأجيال الثلاثة ليكونوا جزءاً من المجتمع المدني في تلك الدول، إما على صعيد الحراك الثوري أو الإغاثي أو حتى السياسي، وضمن أنظمة محددة من قبل الدول المضيفة لتنظيم هذا النوع من الحراك، وعلى النقيض من ذلك؛ وفي عالم موازٍ تحكمه نظرية التجانس التي يصنَعُها الأسد، اعتقل عدد من شباب مدينة داريا عام 2002 لأنهم أطلقوا حملةً لتنظيف المدينة من القمامة، وقد تقاذفتهم فروع الأمن لاحقاً لأنهم أرادوا تغيير تفصيلٍ صغيرٍ في فسيفساء الاستبداد التي رسمها الأسد الأب، فالنظام يُدرك جيداً أن أي تغيير اجتماعي مهما صغر حجمه سيؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى نهايته.
ليس من صالح نظام الأسد اليوم أن يُعيد إلى مناطقه شباباً أو أطفالاً لا يملكون في ذهنهم الاستبداد المتوارث، ولم يَنشَؤوا على سياسة “الحيطان لها أذان” أو “عليك من حالك”، ولا يملكون ذاكرة تتمحور حول مشاهد اختفاء الأب أو الأخ دون إمكانية اتخاذ إجراء قانوني أو وجود محامٍ يُتابع تهمته وقضيته، ولا يمكنهم تصوُّر أن زملاءهم في الجامعة أو المدرسة قد يكونون هُم أنفسهم المخبرين أو المحققين في الفروع الأمنية، أو حتى أن يكون قبو الجامعة مكاناً لاعتقال الطلاب وتعذيبهم من قبل زملائهم بدل أن يكون مكاناً لنشاطاتهم أو رياضتهم أو عبادتهم، ولا يعلمون أن الأفراح والأتراح أيضاً تحتاج إلى موافقة أمنية، كل ذلك يعني أنه من الصعب أن تتوافق سياسة النظام ورؤيته للمجتمع والدولة ومؤسساتها مع مفاهيم الأجيال التي عاشت أو وُلدت خارج مناطقه فهو لم يؤسس فيهم القابلية للاستبداد كعادته، إضافة إلى أن التسارع الحضاري في الدول الأخرى يجعل من العسير على من عاش فيها أن يتعايش مع التخلف الاجتماعي والاقتصادي الممنهج الذي ما زال يزرعه الأسد في مناطقه.
لماذا يطالب الأسد بعودة اللاجئين؟
بلغت نسبة البطالة في مناطق سيطرة نظام الأسد 40% للشباب و60% للإناث[3]، حيث تنامى العجز في القطاعين الخاص والحكومي مع إغلاق عدد كبير من المعامل في المدن الصناعية بسبب أزمتي الكهرباء والوقود، ومن جانب آخر ظهرت أزمة مَنحِ جوازات السفر في مناطق النظام بسبب الضغط على دوائر الهجرة نتيجة إقبال الناس وخاصة فئة الشباب على استخراج جوازات سفر من أجل الخروج من مناطق الأسد نحو مصر أو الإمارات أو دول أخرى سهّلت منح الفيز للسوريين في النصف الأول من 2022، وبناء على هذه المؤشرات فإن حكومة الأسد لا تملك خطة لاستيعاب عودة اللاجئين من حيث تأمين الخدمات اليومية أو العمل أو حتى التعليم، ناهيك عن عجزها عن إقناع الشباب للبقاء في مناطقها.
وعلى الرغم من عقد مؤتمرين للاجئين في دمشق وبحضور الدول التي تملك أعلى نسب للاجئين من مواطنيها حول العالم بسبب الأنظمة الديكتاتورية التي تحكمها مثل العراق وفنزويلا ولبنان وإيران، فإن الهدف كان جلياً ولا يتعلق بعودة اللاجئين بقدر ما يهدف للتسويق بأن سوريا أصبحت آمنة وتستطيع استقبال اللاجئين للبدء بالمقترح الروسي من أجل إعادة الإعمار، حيث اقترنت فكرة إعادة الإعمار دائماً بعودة اللاجئين، ورغم كل محاولات روسيا لإعادة تعويم الأسد فإنها باءت بالفشل في إقناع اللاجئين بالعودة، وبذلك أصبح ملف اللاجئين عند نظام الأسد لا يتعدى ورقة لإقناع الدول من أجل إعادة الإعمار، أما عن ملايين السوريين الهاربين من البطش فأمرهم هامشي في خطة الأسد الرامية لاستكمال مشروع مجتمعه المتجانس المكون من مرتزقة ودُمى وشعب يقبع في سجن كبير يسمى “المناطق الواقعة تحت سيطرة الأسد”.
ختاماً، يُراهن أي نظامٍ دكتاتوري من أجل بقائه على استمرار سلسلة الخوف المتوارث بين الأجيال المتعاقبة، وأي انقطاع في تلك السلسلة عن طريقِ أفكار تحررية قد يهدد وجوده الحالي ويقتضي محاسبته على جرائمه الفائتة، لذلك يحاول المستبد أن يُغيّر كل أدواته وأساليبه حتى لو أفضت إلى أن يبقى من الشعب ثلثه أو ربعه في سبيل الحفاظ على الدولة المتوحشة العازلة لكل حرية وديمقراطية، ومهما حاول الأسد التضييق على اللاجئين عبر حلفائه ليعودوا إلى حضنه الذي فروا منه، سيبقى قسم كبير منهم يربط عودته برحيل الأسد، وإن عاد قسم منهم إلى مناطق سيطرة النظام فسيبقى الجيل العائد مع آبائه هو الجيل الذي قطع سلسلة الخوف بأفكاره قبل أفعاله، وهذا يُرشدنا إلى محاولات تَلَمس ملامح الثورة السورية القادمة كي نواكبها بدلاً من أن نُفاجأ بحدوثها كما تفاجأ الجيل السابق بثورتنا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت