أمجد يوسف واحد فقط من مجرمي الأسد، هو ليس بين صفوتهم وكبارهم، وحواجز “شبيحة شارع نسرين” في حي التضامن ليست الحواجز الوحيدة التي يمكن وصف وظيفتها بالقول: قِفْ.. حاجز. قفْ.. مجزرة. مصيبة مجزرة التضامن التي كشف عنها التحقيق الذي أعدته الباحثة أنصار شحّود والباحث أوغور أوميت أونغور أنها تؤكد بالدليل الصادم على ما هو معروف نظرياً، وفي أن التحقيق يوثّق جانباً مما يحدث في حواجز الجيش أو المخابرات أو الشبيحة، الجانب المتصل بالإعدامات الجماعية أو الممنهجة التي يُظن أن ارتكابها محصور في أقبية المخابرات وفي السجون.
لدينا المئات، بل الألوف، من أمجد يوسف المرتكب الرئيس لمجزرة التضامن. هو الذي يقرر من يستحق القتل، فيُقدم على إعدامه من دون استشارة مرجعية أعلى، إنه مخوَّل بتنفيذ مجزرته الخاصة كيفما يشاء ضمن التصريح الممنوح له. انضواء أمجد يوسف في المخابرات العسكرية يسهّل إثبات المسؤولية على قادته، وصولاً إلى القائد الأعلى بشار الأسد، لكن كما نعلم للشبيحة “من خارج الجيش والمخابرات” حواجزهم حيث تفنن البعض في التنكيل بمن ساقهم سوء الحظ إلى محاولة العبور منها. لقد وصل الأمر إلى التباري بين الحواجز، فبعد أن شاعت سمعة شبيح يرمي بضحاياه إلى ضباع يجوّعهم سيضارب عليه آخر بجلب أسُود للغرض ذاته. لا مجاز إطلاقاً هنا في الحديث عن ضباع وأسود.
منذ المظاهرات الأولى في آذار 2011، عندما كان عدد المتظاهرين بالعشرات أو المئات، ظهرت الحواجز في كل مكان. كان هذا التدبير مجرباً من قبل، وإنْ على نطاق أقل كثافة، فعندما اندلعت المواجهة مع الإخوان المسلمين راحت الحواجز تنتشر، ثم تزداد بين أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، ليبقى البعض منها راسخاً لسنوات لاحقة رغم القضاء على الإخوان وعلى عشرات ألوف المدنيين في مدينة حماة خاصة.
تعايشَ السوريون مع فكرة الحاجز أيام الثمانينات، ثم بعد اندلاع الثورة، وقبلها عرف اللبنانيون ما يعنيه حاجز المخابرات أو الجيش السوريين. ثمة جهد يستحق أن يُبذل، وأن يشارك فيه سوريون “ولبنانيون أيضاً”، من أجل توثيق التجارب الشخصية، والمنقولة على نحو موثق، مع الحاجز التابع للأسد. الذروة بلا شك ستكون للمجازر الجماعية، نزولاً إلى حالات القتل الفردية والعشوائية، مروراً بحالات التنكيل التي تهدف فقط إلى الإذلال أو التشفي، وصولاً إلى ما يُسرد كطرائف تتعلق غالباً بالمستويين العقلي والأخلاقي المنحطَيْن لعناصر الحاجز. لنا أن نتخيل حصيلة ضخمة جداً ومرعبة من الذكريات مع الحواجز، ويلزم أن نغادر الاعتياد للتفكير في “فقه الحواجز” الأسدي كما عاشه الملايين.
بالحواجز، ينشر الأسد على نطاق واسع إمكانية ممارسة العنف والإرهاب ضد الجميع، بمعنى أن العنف لا يعود محتكراً لفئة قليلة من جلاديه تستهدف فئة محددة من معارضيه. هنا تتوقف المهمة الكلاسيكية للمخابرات “وحتى الجيش”، ليصبح المعارضون، أو فئات منمَّطة مناطقياً أو طائفياً أو عرقياً، مستهدفين في المقام الأول. إلا أن إرهاب الأسد الموسّع أفقياً هو بطبيعته موجه ضد الجميع، أي ضد كل الذين ليسوا مشاركين بدرجة ما في ممارسته، وهو لهذا يحتمل الخسائر الجانبية، بمعنى أن يكون من ضحاياه بعض الموالين.
ينظر القائمون على الحواجز إلى أنفسهم وإلى أقرانهم بوصفهم ممثلين للدولة، أو الدولة نفسها، وينظرون إلى ضحاياهم من تعساء الحظ بوصفهم كائنات ما دون الدولة. نستعيد في هذا السياق مناقشة حنه أرندت لمدلولات وصف هتلر معارضيه بـ”ما دون البشر”، كي يسهل على النازيين إبادتهم. السلطة في هذا الحالة هي بمثابة تفوق عنصري لأهلها يبيح إبادة من هم خارجها، والحاجز هو السلطة وقد استُثيرت وخرجت من مقارها المعتادة لتمارس طبيعتها في الاستباحة، قتلاً أو تعذيباً أو سطواً، أو كل ذلك معاً.
يقطّع الحاجز معيشة الذين هم خارج تنظيم “الدولة” التي يمثّلها، وهذا التقطيع الذي يبدأ النظر إليه “من جهة المستَهدفين” مؤقتاً، ولوظيفة مخابراتية، سيأخذ صفة الدوام ليصبح التقسيم أمراً واقعاً مع الوقت. الحي الآخر المجاور يصبح، بحكم الحواجز من الجهتين، ما يشبه بلداً آخر لا يتطلب السفر إليه مشقة عبور الحواجز فحسب، بل المخاطرة والتعرض للموت. هذا يحدث يومياً للذين يذهبون إلى أعمالهم، إن لم تكن في الحي الذي يقطنون فيه، ومن وظائفه الجانبية الاستنزاف المتعمد لأوقات هؤلاء في الذهاب والإياب بحيث لا يؤدون وظائف حيوية أخرى.
لقد حدث حقاً مع هذا التكتيك أن أصبح الحي الآخر مستقلاً، وبمثابة المجهول الذي لا يندر أن يتحول إلى العدو الذي يأتي “أو قد يأتي” منه الموت. في معظم الأحيان، أو جميعها، تسببت الحواجز مع سياسة الحصار بانقسامات، بعضها مناطقي وبعضها إثني وبعضها طائفي، وإذا كانت الحواجز النفسية قائمة نسبياً بين مختلف المجموعات فهي ستتعزز مع الحواجز. من النتائج الكارثية للحواجز تقطيع البلد إلى “مربعات أمنية”، ما أدى فعلياً إلى تمزيق إمكانية الاجتماع الوطني حول الثورة، وكان له دور حاسم في تقطيعها إلى جزر منفصلة، أو حتى متناحرة.
انطلاقاً من أن الحواجز هي عنف السلطة الفالت ضد السكان، وضد اجتماعهم، وأن ترهيبهم بمختلف السبل هو الأصل في فكرة الحاجز، يكون أمجد يوسف هو السلطة حقاً، أو الدولة وفق مفهومه عنها. أمثاله لا يمارسون الفظاعات وفق المتخيَّل الشائع عنها لدى الضحايا ومن في صفهم، إنهم يمارسونها كعمل تقني، كشأن من “بيروقراطية العنف” الخاص بدولتهم، العنف التقني الموجه لمن هم دون الدولة. ليس لدى أمجد وأمثاله إحساس بالذنب، ومن المرجح أن لديهم شعوراً بالرضا لأداء وظيفتهم، لذا لا يمنعهم عنفهم الوظيفي من أن يكونوا رقيقين مع أطفالهم أو حبيباتهم، وقد لا يمنعهم من كتابة شعر عاطفي عذب!
فضلاً عن واجب إنصاف الضحايا، بالسعي إلى محاكمة المجرمين من أمثال أمجد وصولاً إلى الجلاد الأول أو الأكبر، ثمة جهد “لا يتطلب موافقة دولية” يستحسن بذله لفهم الآثار المباشرة والمديدة للحواجز، ومن شأن مجزرة التضامن الإضاءة بقوة عليها. ذلك ضروري أيضاً لفهم جوانب عديدة من التمزق السوري، من أجل مئات الألوف، أو ربما ملايين السوريين الذين قُتل منهم شيء ما على حاجز.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت