قُضيَ الأمر ونفذ السهم من القوس، وما عاد في إمكان السلطات اللبنانية أن تتلكأ أكثر وتتدلع، وعليها أن تذهب إلى صندوق النقد الدولي، وإلى المؤسسات المالية الرديفة، لطلب المساعدة العاجلة. ووصفات الصندوق الدولي باتت نمطيةً ومعروفةً تماماً، وهي تتضمن إجراءات فورية لمعالجة عجز الميزانية، منها: رفع ضريبة القيمة المضافة، وزيادة الرسوم على الكهرباء والوقود والمياه، وخفض رواتب موظفي الدولة ومعاشات التقاعد، وتقليص حجم القطاع العام بالتدريج، وخصخصة بعض المرافق المهمة والخاسرة، كالكهرباء والميناء وإدارة حصر التبغ والتنباك، ثم تعويم سعر العملة المحلية وتركها لحركة السوق، أي للعرض والطلب، وأخيراً دمج المصارف وإعادة رسملتها وخفض عددها من نحو 73 مصرفاً إلى ما لا يزيد على 20 مصرفاً. والمؤكّد أن لبنان، في حال خضوعه لشروط صندوق النقد الدولي، سيمنح الصندوقَ الحقَ في التدخل في السياسة المالية والاقتصادية والنقدية للدولة، وكذلك الحق في مراقبة الإنفاق، وهذا مؤلم، لكن لا غنى عنه بعدما أوصل “اللصوص” الوضع اللبناني إلى ما هو عليه.
كان لبنان في الماضي دولةً لا يُضرب دونها حجاب، ولا يوصد في وجهها باب. وحتى عندما بدأ سعر الليرة اللبنانية في الانهيار في سنة 1985، لم تلجأ المصارف اللبنانية إلى تقييد السحوبات والتحويلات على الإطلاق، واستمر القطاع المصرفي على حاله. أما اليوم، فهذا القطاع بات في خضمّ الإفلاس، بعدما امتنعت المصارف علناً عن سداد الودائع لأصحابها. وستذهب الحكومة صاغرة إلى صندوق النقد الدولي، لتقديم فروض الطاعة، والتوسّل كي يساعد لبنان على الخلاص من الكارثة المتفاقمة، وسيكون للولايات المتحدة الأميركية ولدول الاتحاد الأوروبي الكلمة الفصل في مساعدة لبنان، أو الاستنكاف عن مساعدته، حتى من خلال صناديق دول النفط العربية. وستُفرض شروط المسكوب على الحكومة اللبنانية كي تصبح المساعدات ممكنةً، ومنها عدم السير في ركاب السياسة الخارجية الإيرانية، وعدم تعزيز موقع حزب الله في السياسة الداخلية اللبنانية. ولا ريب أن إدارة الظهر للحكومة اللبنانية، وامتناع دول العالم وبعض الدول العربية النفطية عن نجدة لبنان، عائدان إلى أسباب سياسية واضحة ومكشوفة تتعلق بحزب الله.
الديون اللبنانية العاجلة، أي التي يجب سدادها في سنة 2020، تبلغ 4,6 مليارات دولار. وكان المصرف المركزي قد دأب، طوال العشرين سنة الماضية، على شراء الدولار من السوق المحلية بالليرة اللبنانية، فساهم ذلك في تراجع سعر الليرة في مقابل الدولار الذي اختفى من الأسواق، وتحوّل الأمر إلى أزمةٍ سيولةٍ دولاريةٍ، بعدما كانت المصارف قد وظفت ودائع الناس قصيرة الأجل في سندات الخزينة اللبنانية طويلة الأجل. وحين عجزت الدولة عن سداد المستحقات، وقعت المصارف في هاوية الامتناع عن السداد، وهو ما يُعرف علمياً بـِ”الإفلاس”. وفوق ذلك، عمد التجار، جرّاء منع التحويلات إلى الخارج، إلى شراء الدولار الورقي (البنكنوت) من السوق لتمويل عملياتهم التجارية، ما أدّى إلى ارتفاع الطلب على الدولار، فارتفع سعره. وما زاد الطين بلة، أن المصارف اللبنانية باتت غير قادرة على جذب الودائع العربية، وتوقفت تحويلات المغتربين اللبنانيين العاملين في دول الخليج العربي (وتحويلات الفلسطينيين والسوريين أيضاً) لأن هؤلاء باتوا يفضلون إبقاء مدّخراتهم في البلدان التي يعملون فيها، وتراجعت إلى الحضيض استثمارت القطاع الخاص، وصارت الاستثمارات الأجنبية تساوي الصفر.
… منذ انفراط اتفاقية الوحدة الاقتصادية بين لبنان وسورية في خمسينيات القرن المنصرم، ثم إلغاء المصالح المشتركة في عهد خالد العظم، كالنقد والمصرف المركزي والجمارك وسكك الحديد والتبغ والتنباك، راح السوريون يتوجهون في استثمار أموالهم إلى لبنان، بسبب الأرباح الأعلى وحرية التجارة وسهولة تحويل الأموال. وتدفقت الأموال السورية على لبنان في فترة الاضطرابات السياسية، ولا سيما في عامي 1954 و1955، ثم انهمرت قبيل الوحدة السورية – المصرية وفي أثنائها (1958-1961). وتُقدَّر اليوم إيداعات السوريين في المصارف اللبنانية بنحو 50 مليار دولار (مئة ألف حساب)، وتربّع مصرف “بلوم بنك” أو “بنك لبنان والمهجر” الذي أسسه السوري عدنان الأزهري على رأس لائحة المصارف اللبنانية. وقبيل الأزمة المالية اللبنانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، قُدّرت تحويلات السوريين من أوروبا وحدها بنحو أربعة مليارات دولار سنوياً، وكان معظمها يُحوَّل عبر المصارف اللبنانية، أو من خلال شركات تحويل الأموال في لبنان للاستفادة من فارق سعري الدولار بين بيروت ودمشق. وكان التجار السوريون، وكذلك الأفراد، يسحبون مقدار حاجاتهم من حساباتهم في المصارف اللبنانية، لتسيير أعمالهم في سورية. ولكن، مع الإجراءات المالية الأخيرة في لبنان (وقف السحوبات والتحويلات)، ات رجال الأعمال السوريون غير قادرين على سحب ودائعهم بالدولار، وهذا جعل كمية الدولار الورقي تتقلص في السوق السورية، ويرتفع سعره في مقابل الليرة. وفي هذه الحال، لجأ رجال أعمال كثيرون إلى شراء الدولار بالعملة السورية لتمويل عملياتهم التجارية. وهذا الطلب المتزايد أدّى إلى هبوط سعر الليرة من نحو 600 ليرة سورية للدولار إلى نحو 1200 ليرة. وتراجُع سعر الليرة السورية هو نتاج طبيعي لتخريب دورة الحياة الاقتصادية في سورية، وتدمير مصانعها، علاوة على العقوبات الأميركية والإنكليزية، وشحّ الدولار في السوق اللبنانية، والمضاربة على الدولار التي اتبعتها شركات الصيرفة في بيروت ودمشق، في خضم الأزمة المالية في الآونة الأخيرة.
ولعل من مكر الأزمات الاقتصادية أن ينبثق في هذا الليل أثر إيجابي، ولو محدوداً؛ فتضاؤل قدرة التجار اللبنانيين والسوريين على استيراد السلع من الأسواق العالمية، يجعلهم يتجهون إلى مزيد من التبادل السلعي بين البلدين، جرّاء التشابك بين الاقتصادَين، والقرب الجغرافي. وكل نقصٍ في السلع المطلوبة في أحد البلدين يجري تأمينه من السوق الثانية. والسلع المتبادلة تدخل يومياً، وفي الاتجاهين، من المعابر الشرعية وغير الشرعية، كالمواد الغذائية والزراعية والملابس والأنسجة والمصنوعات الدوائية والكيماوية كالمنظفات، علاوة على المحروقات. وكان التبادل قبل الأزمة الأخيرة يجري بعملتي البلدين، الأمر الذي لا يرتّب أي أعباء بالعملة الصعبة على احتياطي العملة الصعبة في كل بلد، بل يتكفل بذلك التجار والمهرّبون المعروفون. فالتهريب، خلافاً للكلام الجاري على ألسنة السياسيين في لبنان، يستفيد منه الاقتصاد اللبناني بالدرجة الأولى. وحتى لو كان يؤثّر سلباً في محصلة الرسوم العمومية للبنان وسورية، إلا أنه يساهم في تأمين السلع الضرورية لسكان البلدين بأسعار عادية. بيد أن هذه القاعدة صارت شديدة الاضطراب الآن، لأن السعر التبادلي بين الليرة السورية والليرة اللبنانية شديد التذبذب في هذه الأيام، الأمر الذي يجعل عمليات “المقايضة”، بصورها التجارية المتعدّدة، صعبة جداً. ومهما تكن الحال، فمن المتوقع أن تزداد عمليات تهريب البضائع من سورية إلى لبنان وبالعكس، مع غضّ النظر من السلطات الرسمية.
… تعمل في سورية سبعة مصارف لبنانية، أو ذات ارتباط بالمصارف اللبنانية، ومن بين هذه المصارف ثلاثة مصارف متعثرة في لبنان. وكانت هذه المصارف تحوّل كميات من النقود بالعملات الصعبة من فروعها في سورية إلى المصارف الأم في بيروت، إما لإيداعها استثمارات سائلة، أو لتمويل عمليات تجارية لرجال أعمال سوريين. وعلى الرغم من مرور تسع سنوات على الحرب في سورية، فإن أي مصرف من تلك المصارف لم يُقفل أبوابه، الأمر الذي يشير إلى تحقيق بعض الأرباح، ومنها نحو 15 مليون دولار في سنة 2018 وحدها. وتتطلع المصارف اللبنانية إلى أن تستفيد من عمليات إعادة الإعمار في سورية، لكنها تخشى من العقوبات الأميركية في ما لو دخلت مباشرة إلى السوق السورية، بعدما تعرّضت شركتا شحن لبنانيتان كانتا تنقلان النفط الإيراني إلى الموانئ السورية للعقوبات.
خطر الانهيار المالي اللبناني سيغمر الوضع المالي السوري كذلك. وإذا انهار مصرف واحد في لبنان، فإن الآثار التسلسلية ستطاول القطاع المصرفي كله، فكيف تكون الحال لو انهارت المصارف الثلاثة المتعسرة وغيرها أيضاً؟ قد يكون من المجدي لتطويق بعض جوانب نقصان العملات الصعبة إطلاق حرية التبادل السلعي بين سورية ولبنان من دون قيود جمركية، حتى لو كان بالتهريب، إلى أن يجتاز لبنان هذه المحنة.
الديون اللبنانية العاجلة، أي التي يجب سدادها في سنة 2020، تبلغ 4,6 مليارات دولار. وكان المصرف المركزي قد دأب، طوال العشرين سنة الماضية، على شراء الدولار من السوق المحلية بالليرة اللبنانية، فساهم ذلك في تراجع سعر الليرة في مقابل الدولار الذي اختفى من الأسواق، وتحوّل الأمر إلى أزمةٍ سيولةٍ دولاريةٍ، بعدما كانت المصارف قد وظفت ودائع الناس قصيرة الأجل في سندات الخزينة اللبنانية طويلة الأجل. وحين عجزت الدولة عن سداد المستحقات، وقعت المصارف في هاوية الامتناع عن السداد، وهو ما يُعرف علمياً بـِ”الإفلاس”. وفوق ذلك، عمد التجار، جرّاء منع التحويلات إلى الخارج، إلى شراء الدولار الورقي (البنكنوت) من السوق لتمويل عملياتهم التجارية، ما أدّى إلى ارتفاع الطلب على الدولار، فارتفع سعره. وما زاد الطين بلة، أن المصارف اللبنانية باتت غير قادرة على جذب الودائع العربية، وتوقفت تحويلات المغتربين اللبنانيين العاملين في دول الخليج العربي (وتحويلات الفلسطينيين والسوريين أيضاً) لأن هؤلاء باتوا يفضلون إبقاء مدّخراتهم في البلدان التي يعملون فيها، وتراجعت إلى الحضيض استثمارت القطاع الخاص، وصارت الاستثمارات الأجنبية تساوي الصفر.
… منذ انفراط اتفاقية الوحدة الاقتصادية بين لبنان وسورية في خمسينيات القرن المنصرم، ثم إلغاء المصالح المشتركة في عهد خالد العظم، كالنقد والمصرف المركزي والجمارك وسكك الحديد والتبغ والتنباك، راح السوريون يتوجهون في استثمار أموالهم إلى لبنان، بسبب الأرباح الأعلى وحرية التجارة وسهولة تحويل الأموال. وتدفقت الأموال السورية على لبنان في فترة الاضطرابات السياسية، ولا سيما في عامي 1954 و1955، ثم انهمرت قبيل الوحدة السورية – المصرية وفي أثنائها (1958-1961). وتُقدَّر اليوم إيداعات السوريين في المصارف اللبنانية بنحو 50 مليار دولار (مئة ألف حساب)، وتربّع مصرف “بلوم بنك” أو “بنك لبنان والمهجر” الذي أسسه السوري عدنان الأزهري على رأس لائحة المصارف اللبنانية. وقبيل الأزمة المالية اللبنانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، قُدّرت تحويلات السوريين من أوروبا وحدها بنحو أربعة مليارات دولار سنوياً، وكان معظمها يُحوَّل عبر المصارف اللبنانية، أو من خلال شركات تحويل الأموال في لبنان للاستفادة من فارق سعري الدولار بين بيروت ودمشق. وكان التجار السوريون، وكذلك الأفراد، يسحبون مقدار حاجاتهم من حساباتهم في المصارف اللبنانية، لتسيير أعمالهم في سورية. ولكن، مع الإجراءات المالية الأخيرة في لبنان (وقف السحوبات والتحويلات)، ات رجال الأعمال السوريون غير قادرين على سحب ودائعهم بالدولار، وهذا جعل كمية الدولار الورقي تتقلص في السوق السورية، ويرتفع سعره في مقابل الليرة. وفي هذه الحال، لجأ رجال أعمال كثيرون إلى شراء الدولار بالعملة السورية لتمويل عملياتهم التجارية. وهذا الطلب المتزايد أدّى إلى هبوط سعر الليرة من نحو 600 ليرة سورية للدولار إلى نحو 1200 ليرة. وتراجُع سعر الليرة السورية هو نتاج طبيعي لتخريب دورة الحياة الاقتصادية في سورية، وتدمير مصانعها، علاوة على العقوبات الأميركية والإنكليزية، وشحّ الدولار في السوق اللبنانية، والمضاربة على الدولار التي اتبعتها شركات الصيرفة في بيروت ودمشق، في خضم الأزمة المالية في الآونة الأخيرة.
ولعل من مكر الأزمات الاقتصادية أن ينبثق في هذا الليل أثر إيجابي، ولو محدوداً؛ فتضاؤل قدرة التجار اللبنانيين والسوريين على استيراد السلع من الأسواق العالمية، يجعلهم يتجهون إلى مزيد من التبادل السلعي بين البلدين، جرّاء التشابك بين الاقتصادَين، والقرب الجغرافي. وكل نقصٍ في السلع المطلوبة في أحد البلدين يجري تأمينه من السوق الثانية. والسلع المتبادلة تدخل يومياً، وفي الاتجاهين، من المعابر الشرعية وغير الشرعية، كالمواد الغذائية والزراعية والملابس والأنسجة والمصنوعات الدوائية والكيماوية كالمنظفات، علاوة على المحروقات. وكان التبادل قبل الأزمة الأخيرة يجري بعملتي البلدين، الأمر الذي لا يرتّب أي أعباء بالعملة الصعبة على احتياطي العملة الصعبة في كل بلد، بل يتكفل بذلك التجار والمهرّبون المعروفون. فالتهريب، خلافاً للكلام الجاري على ألسنة السياسيين في لبنان، يستفيد منه الاقتصاد اللبناني بالدرجة الأولى. وحتى لو كان يؤثّر سلباً في محصلة الرسوم العمومية للبنان وسورية، إلا أنه يساهم في تأمين السلع الضرورية لسكان البلدين بأسعار عادية. بيد أن هذه القاعدة صارت شديدة الاضطراب الآن، لأن السعر التبادلي بين الليرة السورية والليرة اللبنانية شديد التذبذب في هذه الأيام، الأمر الذي يجعل عمليات “المقايضة”، بصورها التجارية المتعدّدة، صعبة جداً. ومهما تكن الحال، فمن المتوقع أن تزداد عمليات تهريب البضائع من سورية إلى لبنان وبالعكس، مع غضّ النظر من السلطات الرسمية.
… تعمل في سورية سبعة مصارف لبنانية، أو ذات ارتباط بالمصارف اللبنانية، ومن بين هذه المصارف ثلاثة مصارف متعثرة في لبنان. وكانت هذه المصارف تحوّل كميات من النقود بالعملات الصعبة من فروعها في سورية إلى المصارف الأم في بيروت، إما لإيداعها استثمارات سائلة، أو لتمويل عمليات تجارية لرجال أعمال سوريين. وعلى الرغم من مرور تسع سنوات على الحرب في سورية، فإن أي مصرف من تلك المصارف لم يُقفل أبوابه، الأمر الذي يشير إلى تحقيق بعض الأرباح، ومنها نحو 15 مليون دولار في سنة 2018 وحدها. وتتطلع المصارف اللبنانية إلى أن تستفيد من عمليات إعادة الإعمار في سورية، لكنها تخشى من العقوبات الأميركية في ما لو دخلت مباشرة إلى السوق السورية، بعدما تعرّضت شركتا شحن لبنانيتان كانتا تنقلان النفط الإيراني إلى الموانئ السورية للعقوبات.
خطر الانهيار المالي اللبناني سيغمر الوضع المالي السوري كذلك. وإذا انهار مصرف واحد في لبنان، فإن الآثار التسلسلية ستطاول القطاع المصرفي كله، فكيف تكون الحال لو انهارت المصارف الثلاثة المتعسرة وغيرها أيضاً؟ قد يكون من المجدي لتطويق بعض جوانب نقصان العملات الصعبة إطلاق حرية التبادل السلعي بين سورية ولبنان من دون قيود جمركية، حتى لو كان بالتهريب، إلى أن يجتاز لبنان هذه المحنة.
المصدر
العربي الجديد
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت