لم يكن أحمد جبريل الأمين العام لـ”الجبهة الشعبيّة – القيادة العامّة” التي أسّسها في العام 1968 بعد انشقاقه عن “الجبهة الشعبيّة” سوى استثناء فلسطيني. كان استثناء في كلّ شيء، بما في ذلك درجة العمالة للنظام السوري وصولا إلى مشاركته بعد الثورة السورية في 2011 في معاقبة أهالي مخيّم اليرموك في دمشق عن طريق تهجيرهم وإلصاق تهمة “الداعشيّة” بهم.
حوّل أحمد جبريل، الذي توفّى في دمشق أخيرا عن 93 عاما، فصيلا كاملا إلى تنظيم عسكري في خدمة الأجهزة الأمنيّة السورية. ما لبثت هذه الأجهزة أن طوّرت العلاقة بهذا التنظيم الفلسطيني مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة ابتداء من 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970.
حولت الأجهزة السوريّة “القيادة العامة” امتدادا لها كي تقوم بما لا تريد هي القيام به والإعلان عنه. بكلام أوضح، كانت تلصق بـ”القيادة العامة” وجبريل شخصيا أعمالا وممارسات كانت تفضل الظهور في مظهر البعيد عنها. على سبيل المثال، وليس الحصر، لعب أحمد جبريل نفسه، وهو خبير في المتفجرات، دورا في تفجير فنادق بيروت التي كانت منتشرة في منطقة الزيتونة البحرية.
أشرف بنفسه في العام 1976، وقد شاهدته بعيني، على تفجير جدران كلّ فندق في الزيتونة من أجل الوصول، عبر فجوات كبيرة، إلى مبنى لفندق آخر مرشّح للتدمير. رأيت في ذلك مدى حقد النظام السوري الذي أسّسه حافظ الأسد على بيروت. لم يكن أحمد جبريل سوى تجسيد لهذا الحقد الذي استهدف المجتمع اللبناني ككلّ وكلّ ما هو مزدهر في لبنان.
استطاع حافظ الأسد إدارة الأجهزة الأمنيّة السورية المختلفة عن طريق جعل كلّ منها رقيبا على الآخر. كانت “القيادة العامة” جزءا لا يتجزّأ من المنظومة الأمنيّة السوريّة في تحقيق طموحات الرئيس السوري الذي أتقن لعبة اللاحرب واللاسلم وذهب بها إلى النهاية من أجل المحافظة على هيمنة الطائفة العلويّة على سوريا لا أكثر.
بالنسبة إلى حافظ الأسد، كان مطلوبا من السنّي أن “يخون” في حال وجد نفسه مضطرّا إلى الذهاب إلى سلام مع إسرائيل يوما. لذلك، لم يلتق، أقلّه في العلن، أيّ مسؤول علوي سوري مسؤولا إسرائيليا. التقى حكمت الشهابي، رئيس الأركان السوري أمنون شاحاك رئيس الأركان الإسرائيلي، كما التقى قبل ذلك إيهود باراك. كذلك، التقى فاروق الشرع ووليد المعلّم إيهود باراك بعد أن صار رئيسا للوزراء في إسرائيل..
حقّق أحمد جبريل اختراقا في مصلحة النظام السوري لكلّ المنظومة الفلسطينية التي أدارها ياسر عرفات في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، خصوصا في لبنان. كان هناك كره، ليس بعد كره، لدى النظام لـ”أبوعمار” الذي كانت تتنازعه رغبة البقاء في لبنان من جهة والمحافظة على القرار الفلسطيني المستقلّ من جهة أخرى. لم تدم اللعبة المستحيلة التي مارسها الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني طويلا. لم يحصل على القرار الفلسطيني المستقلّ إلّا بعد مغادرته لبنان مضطرّا..
لا يمكن بأيّ شكل الاستهانة بالدور الذي لعبه أحمد جبريل منذ ما يزيد على نصف قرن، لا في مجال المزايدة على ياسر عرفات ولا في استخدامه في الحرب الدمويّة بين البعثين السوري والعراقي. كان أكثر فائدة بكثير من تنظيم “الصاعقة” الفلسطيني الذي لم يكن زهير محسن يخفي أنّه تابع مباشر للنظام السوري والذي كان في الوقت ذاته ممثله في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن يبقى أحمد جبريل حالة خاصة نظرا إلى أنّ تنظيمه استخدم أيضا من جانب إيران. ربطه حافظ الأسد طوال سنوات بمعمّر القذّافي الباحث دائما عن دور فلسطيني في غياب قدرته على تدجين ياسر عرفات… كما ربطه بإيران.
أدّى أحمد جبريل كلّ الأدوار المطلوبة منه لمصلحة النظام السوري الذي وفّر له التمويل من القذّافي في مرحلة معيّنة. وصل به الأمر إلى أن عرف كيفية الاستفادة من النظام العراقي الذي كانت لديه عقدة “جبهة الرفض” في مرحلة واجه فيها النظام البعثي في بغداد ياسر عرفات معتمدا على منشقّ عن “فتح” اسمه “أبونضال” تولّى تصفية عدد لا بأس به من الدبلوماسيين الفلسطينيين البارزين.
ارتبط اسم جبريل في مرحلة معيّنة بتفجير طائرة الركاب الأميركية التابعة لشركة “بانام” فوق لوكربي في كانون الاوّل – ديسمبر 1988. كان الاعتقاد السائد في أوساط مختلفة في الغرب أن “القيادة العامّة” المختصّة بالتفجيرات نفذت عملية لوكربي لمصلحة إيران التي أرادت الانتقام من إسقاط البحريّة الأميركية طائرة ركاب تابعة لها من طراز “آر ـ باص” في مياه الخليج..
في النهاية، قررت الإدارة الأميركية تحميل ما كان يسمّى “الجماهيريّة الليبيّة” ومعمّر القذافي مسؤولية كارثة لوكربي، مستبعدة “الجمهوريّة الإسلاميّة” والنظام السوري و”القيادة العامة”، علما أنّه سبق الجريمة اعتقال السلطات الألمانيّة خليّة تابعة لأحمد جبريل في فرانكفورت. كانت لدى هذه الخليّة التي على رأسها، استنادا إلى السلطات الألمانيّة شخص اسمه حافظ دلقموني، أجهزة راديو من الحجم المتوسّط في داخلها مواد لا تنفجر إلّا لدى وصول الطائرة إلى ارتفاع معيّن.
طوال ما يزيد على نصف قرن، كان أحمد جبريل رجل كلّ الأدوار التي صبّت في مصلحة النظام السوري. في جردة لما أدّاه، لا يوجد ما يشير إلى أن “القيادة العامّة” أدت أيّ خدمة من أيّ نوع لفلسطين باستثناء تلك العمليات الانتحاريّة التي نفذتها انطلاقا من جنوب لبنان. لم يكن لهذه العمليات، بما في ذلك عمليّة بواسطة طائرة شراعية، من جدوى سياسيّة من أيّ نوع. لم تكن تستهدف سوى المزايدة على “فتح” وتكريس لبنان “ساحة” لفصائل تعمل لمصلحة أطراف خارجيّة لا يهمّها مصلحته أو مصلحة مواطنيه.
من لديه أدنى شكّ في ذلك، يستطيع أن يسأل نفسه، لماذا الوجود العسكري لـ“القيادة العامة” في مناطق لبنانيّة معيّنة مثل الناعمة أو قوسايا. كيف يمكن لمثل هذا الوجود الذي كان يحميه السوريون وتحميه الآن إيران أن يساهم في تحرير فلسطين؟ لا وظيفة لمثل هذا الوجود غير الإساءة إلى لبنان وطنا وشعبا خدمة لنظام سوري لم يدرك يوما أنّ تخريب لبنان سيرتدّ عليه يوما. وهذا ما حدث بالفعل..
منذ ما قبل 1970 وإلى اليوم لم يفعل أحمد جبريل سوى ذلك. اختص بالإساءة إلى لبنان ولم يخدم فلسطين!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت