الخلاف الذي ظهر للعلن بين رامي مخلوف، رجل الأعمال المتحكم بجزء هام من الاقتصاد السوري، وبين الرئيس السوري بشار الأسد، يعكس طبيعة الأزمة التي يمر بها النظام السوري. فالخلاف بين مخلوف والأسد، يوضح مدى الفساد المستشري في النظام السوري، ويوضح كيف تلاعب النظام بالاقتصاد وبحقوق الناس.
إن التفكك الذي هز الجيش والأمن كما والاقتصاد بدأ يضرب عصب الأسرة المتحكمة في النظام. هذا التفكك في ظل وجود روسيا وإيران العسكري والسياسي وفي ظل انتقاد الإعلام الروسي لسلوك الأسد، يفتح الباب للكثير من المفاجآت. صراع المال والسلطة والسيطرة وصراع المافيات الاقتصادية وحجم الضحايا السوريين منذ 2011 سيؤثر في المشهد القادم.
لكن السؤال، كيف وصلت سوريا لهذا الوضع البائس؟ لنستعرض بعض من التاريخ. فبفضل سياسات النظام الأمنية والعسكرية منذ 2011 وبفضل قمع الثورة السورية السلمية في شهورها الأولى، تم دفع الثورة نحو التطرف. إن عسكرة الرد النظامي على الثورة وتصفية البعد المدني والشعبي للثورة السورية في 2011-2012 أدى لانشقاقات الجيش الحر ولبروز قوات الميليشيا المختلفة.
لكن النظام في سوريا فضل سياسة الأرض المحروقة على أن يقبل بتقليص صلاحيات الرئيس أو بالحد الأدنى من المساءلة والمحاسبة. وهذا ليس غريبا على الأنظمة الديكتاتورية، لكننا نلحظ فارقا بين نظام يسعى لاستيعاب حالة التغير كما حصل في عدد من الأنظمة العربية التي غيرت الرئيس، وبين نظام يتمسك برأس النظام حتى الرمق الأخير دون أدنى التفات لثمن ذلك التمسك.
ولتفادي الحل السياسي والإصلاح أتى النظام السوري في البداية بحزب الله من لبنان، ثم جاء بدولة إيران، لكن عندما لم ينجح النظام في استعادة المبادرة بفضل قوة زخم الثورة السورية، جاء بروسيا وبطيرانها وبقواعدها العسكرية. فقد تدخلت روسيا بزخم ضد الثورة السورية في أيلول- سبتمبر 2015 وذلك عندما كانت الثورة على وشك إحداث تغير حاسم في وضع النظام. وقد نتج عن كل ذلك تشريد ملايين السوريين وقتل مئات الألوف من المواطنين. لقد انتهى النظام السوري كرهينة بين إيران وروسيا، والان أصبحت تركيا في قلب الحدث السوري في مناطق الشمال.
إن السياسات المتطرفة التي خطها النظام السوري من أجل الحفاظ على كرسي الرئاسة أفقد الرئيس السوري كما وأفقد النظام مكانته وحياديته. إن العلاج الدموي الذي بحث عنه الرئيس بشار الأسد للثورة السورية التي بدأت عام 2011 تبين أنه اسوأ بمئات المرات ممن لو سعى للتحدث مع الثوار والنشطاء في بداية الثورة. فداعش على سبيل المثال كانت نتاجا للقمع ولعسكرة الثورة وسواد الفوضى. وهذه الفوضى ما كان بإمكانها أن تتطور بما فيها داعش لو أن النظام سعى للتفاهم مع الثوار في إطار سياسي منذ البداية. قراءة النظام لما وقع ولعمق غضب الشعب السوري كانت خاطئة وقد أدت لجرائم ضد الإنسانية.
إن مستوى القتل والفتك الذي مورس بحق الشعب العربي السوري يفتح الباب للكثير من الملاحقات القانونية بحق النظام. فمنذ أيام، على سبيل المثال، بدأت محاكمات في ألمانيا لسوريين قاموا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عندما كانوا جزءا من النظام.
لقد تقدم الضحايا بشهاداتهم ضد النظام السوري وضد المتهمين حول التعذيب والقتل وإعدامات السجون. قرار الاتهام أوضح إن ما وقع في سوريا كان جزءا من سياسة منهجية ضد النشطاء والمناضلين السلميين. إن المحاكمات ستمس من أعطى أوامر الإعدام وأساليب القتل والتعذيب والخطف والتصفية.
إن انتقال المحاكمات والمطالبات لقضايا أخرى هو الآخر ممكن. فعلى سبيل المثال بدأت تتفاعل في أوروبا في بعض الدول كهولندا قضية السوريين المخفيين قسريا والمخطوفين في سجون النظام والذين يبلغ عددهم عشرات الألوف. لن يستطيع النظام أن يختبئ من ملايين السوريين المنتشرين في دول العالم.
لقد تفجرت ثورة سوريا عندما تبين للشعب السوري أن أسلوب النظام الأمني وامتهانه لكرامة المواطنين وحرياتهم وضيق أفق سياساته الاقتصادية والأمنية لم تعد تحتمل. فالنظام السوري عاش في ذيل النظام الدولي والاقتصاد العالمي بعد أن سلم البلاد لأقلية من المتنفذين. وبينما تقاسم النظام السوري في زمن الرئيس حافظ الأسد بعض المنافع مع فئات مختلفة من المجتمع السوري إلا أن سيطرة الفساد والمصالح الضيقة في زمن الرئيس السوري بشار الأسد جعلت واقع النظام السوري يتجه نحو إهمال الطبقات والفئات الشعبية. لقد ثار الشعب السوري، كما ثار غيره من شعوب العرب عام 2011.
لم ينتبه النظام السوري بأن القمع الذي مارسه والحرب التي شنها على مكونات المجتمع السوري ساهمت في تدمير النظام السياسي السوري القديم. بل ان ادعاء النظام السوري بالانتصار في تلك الحرب كان من وحي الخيال. فالانتصار لا يقع عندما يتم تهجير الشعب السوري وتدمير اقتصاده وقراه ومدنه وقتل مئات الالوف من بناته وابنائه. ان بيئة مجزرة حماه التي عرف النظام كيف يتجاوزها منذ ثمانينيات القرن العشرين، تختلف عن ما وقع في السنوات منذ 2011. فقد تحولت كل سوريا لجريمة كبرى بحق الإنسانية.
أن قدرة النظام على إحداث التسويات مع الشعب كما وضمن الدائرة الحاكمة الضيقة تقلصت منذ زمن الرئيس بشار الأسد وذلك بسبب صرفه لرأسماله الأخلاقي والسياسي على مدى سنوات الثورة السورية. إن سيطرة القوى الكبرى والإقليمية على المصير السوري هو النتاج الطبيعي لتدمير الشعب السوري من قبل نظامه الأمني والسياسي. ستكشف لنا الأحداث القادمة عن المزيد من المفاجآت، فالتاريخ السوري بالكاد بدأ منذ ثورة 2011 ، كما أن قدرة الشعب السوري على استعادة مكانته هي الأخرى على المحك في المراحل القادمة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت