بلاد الشام مقسَّمة، مفتّتة، موزّعة بين محاور، متحاربة، مضرّجة بدمائها ولاجئيها. ولكن ولا مرة بدَت موحَّدة كما هي الآن. لا سياسياً، أقصد، ولا “فكرياً” أيضاً، إنما بذاك المصير الغريب، الطارد أبناء البلد من بلادهم.
من الأول: الإسرائيليون، بإعلانهم عن تأسيس دولتهم، عام 1948، أخرجوا مئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم، وحوّلوهم إلى لاجئين في دول الجوار. ولاحقاً، لأصحاب الحظوظ من بينهم، هجرة ثانية، مضطربة، مؤقتة، أو مطمئنة في بلاد الله الواسعة. وخلال تلك الهجرات، المطمْئنة منها والقلِقة، احتاج كل فرد فلسطيني نال جائزة العيش أن يفعل ما يفعله كل من خرب بيته: أعادوا بناء حياتهم، كأنهم يستأنفونها. أما الذين “بقوا”، أو “عادوا” إلى الضفة الغربية والقطاع، فلم تخلُ حيواتهم من الاهتزاز، من العذاب، أو من الحلم بالمغادرة يوماً ما. فيما أقرانهم من الذين لم يخرجوا سنة النكبة، فهم منتقصو الحقوق، لا تقلّ حيواتهم اضطراباً وقلقاً من خطط الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على النّيل من أدنى حقوقهم. والمجموعتان تتأرجح مصائر أصحابهما بين أيادي غيرهم، لا بين أياديهم.
من الآخر: السوريون عرفوا، طوال هذه الأثناء، نوعين من السُبُل: الانقلابات العسكرية المتتالية، التي خلطت أوراق بعض مواطنيها، فرحلوا، أو هاجروا، أفراداً معدودين، ليس أكثر. وبعد هذه المرحلة، أتى الاستقرار المديد لحكم حافظ الأسد. رغم حربَي 1967 و1973، لم تتبدّل حيوات السوريين كثيراً، إلا عام 1982، عندما شنّ الأسد حملة دموية، شبه سرّية، على “الإخوان المسلمين”، وعلى مدينة حماه، فتبعثرت حيوات آلافٍ من السوريين، فيما السجون كانت تطبق على كل من تسوّل له نفسه نقد الأسد، أو الانتماء لحزب غير أحزاب “الزينة التقدّمية – الوطنية”، التي كان يتباهى بها حزب البعث الحاكم. والفلسطينيون الذين استقبلتهم سورية سنة النكبة كانوا أوفر الفلسطينيين حظاً بالحقوق، مثل التي “يتمتع” بها السوريون. الاستقرار الذي أرساه الأسد كان من النوع الأمني البوليسي إذن. تستمر الحياة على منوالها السابق، على رتابة سجونها، على هنائها أيضاً، تسيطر عليها قبضة من حديد.
بقيت هذه القبضة ناجحةً، عامرة، حتى اندلاع الثورة السورية ضد بشار الأسد ونظامه. ومن يومها، دُمِّرت حيوات ثلاثة عشر مليون سوري، ومعهم عشرات الآلاف من الفلسطينيين – السوريين: نصفهم خارج سورية، والآخر في داخلها. يعني تقريباً، بدفعة واحدة، ومن دون تمهيد كما حصل مع الفلسطينيين الذين كانوا يواجهون الهجرة اليهودية إلى فلسطين قبل تأسيس إسرائيل بسنوات .. خرج ثلاثة عشر مليون سوري من بيوتهم، والأرجح أن أياً منهم لن يعود، ليؤسّس خارج البيت أو خارج الوطن حياة جديدة، ولو تحت خيمة بلاستيك، حتى لو كان قد تجاوز الخمسين أو الستين من العمر. وهنا لا تُنسى تفاصيل حياة الذين “بقوا” من السوريين تحت قبضة بشار الأسد أو المجموعات الإسلامية المسلحة في الشمال، أو الكردية في شمال الشرق. و”العادي” أن حياة هذه الملايين يشوبها ألف توتّر وإذلال وحرمان، كي لا نقول تدمير لحياة أو لبيت…
بين الأول والأخير، بين سورية وفلسطين لبنان. قدرته على تدمير الحيوات تعود إلى استقلاله على الأقل: من وقتها، أي منذ ثمانين سنة، لم ينعم لبنان بأي عشر سنوات متتالية من “الاستقرار”. تكاد سنوات حروبه المتسلْسلة، المتنوّعة الأشكال، أن تشكّل محطّة شبه منتظمة لإشعال النار في البيوت والأفراد، وكسر خط حياتهم، يميناً وشمالاً.
ولا تتوقف عملية الترحيل من لبنان على تلك المحطات الدموية. إنما علينا أن نحسب، من بين حيوات الأفراد، القرارات التي اتخذها عدد كبير منهم بالهجرة في أوقاتٍ اعتُبرت “قابلة للاستقرار…”، فيما الهجرة المؤقتة كانت غالباً تُتبع بهجرة أخرى، نهائية… إلى ما هنالك من قصصٍ مدوّخة. تقاليد الهجرة اللبنانية الأكثر من مئوية، هي وحدها التي سهّلت على اللبنانيين عملية طردهم من أرضهم، طوال تلك العقود، وجعلتهم “مهاجرين”، لا “لاجئين”، أي أقلّ بؤساً وشظفاً من نظرائهم السوريين والفلسطينيين.
للمقارنة فقط: مقابل قوة الدفع هذه التي أخرجت الشعوب الثلاثة من ديارها، وقلَبت حياتها وحياة أفرادها رأسا على عقب، مقابل هذه “الأوطان” التي لم تحتضن أبناءها، أكان المسؤول عنها إسرائيليا، عربيا، أو أميركيا … إليكَ مصر مثلاً: الطافشون منها قبل استلام أنور السادات الحكم، كانوا قلائل، وعليهم قيود، والكتلة الأكبر منهم عرفت بـ”مصريي الشام”، وهم أثرياء تضايقوا من سياسة جمال عبد الناصر الاقتصادية. بعد ذلك، مع عهد سمّاه انفتاحاً، أصدر السادات دستور 1971، تسمح فيه الدولة لمواطنيها بالهجرة، الدائمة والمؤقتة، فكانت الغالبية العظمى منهم تختار الثانية، المؤقتة، في دول الخليج أساساً، (باتفاقات مع الحكومة المصرية) وقليل من الأفراد إلى دول أوروبية وأميركية. وأخيرا فقط، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أطلق العنان لخروج الإخوان المسلمين من مصر، أو التواري، أو السجن المؤبد. ولكن بالإجمال، ويمكنكَ المقارنة بين حياة الفرد المصري، المستقر، على الرغم من كل حروبه وهزّاته، وحياة الفلسطيني، اللبناني، والسوري اليوم…
الآن، عودة إلى تلك الشعوب الثلاثة: أقدارها لا تشبه إلا نفسها. ولكل واحدٍ من هذه الشعوب والأفراد قصة تُروى عن المسار الذي اتخذته حياته. وبصرف النظر عن اختلاف الأشكال والتواريخ، فإن نقطة واحدة تجمعهم. على الرغم من أن السوري دُمرت حياته جهاراً ومتأخراً، بعدما كانت هياكل هذه الحياة مبْنيةً على طين الخوف، بعد سنوات وعقود من التدمير الآخر، اللبناني والفلسطيني، فإن النقطة البديهية التي تجمع الثلاثة هي أنهم لم ينعموا بالاستقرار في أيٍّ من تلك الفترات القريبة والبعيدة.
والاستقرار يعني أشياء كثيرة: إنه يؤمّن الديمومة والتوازن والتراكم والاستدامة (كلام التنمويين) والثقة والتماسك والقاعدة المتينة لأي فكرة، لأي مشروع. وكل هذه المقوِّمات هي من الشروط الدنيا لحياة الأفراد السليمة التي بواسطتها تستطيع الشعوب، عبر أفرادها، أن تبني العائلة والمهنة والموهبة والطاقة والموارد والغراميات والصداقات والعلاقات الاجتماعية، الأحيائية، والمناطقية، والاقتصاد المنتج طويل المدى. باختصار، أن تكون لهم يد في تقرير مصيرهم الشخصي والعام، فمن دون أن تكون لهم هذه الحياة، لا يمكنهم أن يسعدوا، أو يبنوا، أو يثابروا، أو ينطلقوا، أو يحافظوا على اندفاعتهم، أو شغفهم.. كما يودّون.
إنه الجذع المشترك بين هذه الشعوب الثلاثة: تاريخهم القريب لم يبنِ استقراراً، إلا الاستقرار القسري. ولا بالتالي استطاعوا أن يربحوا من أجدادهم إرثاً، أو درساً، أو يخوضوا في المشاريع، أو يكوِّنوا بدائل، أو يسعدوا بالحياة ببساطة، كما يسعد البشر في أنحاء المعمورة. لا توحّدهم لغة أو مؤامرة أو ثقافة أو أطماع، قدر ما يوحّدهم طردهم من ديارهم، بوتائر مختلفة، وممتدة على عقود.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت