إدلب بعد عام من “درع الربيع”: حدود سوتشي لم ترسم بعد
في السابع والعشرين من شباط / فبراير عام 2020 شهدت محافظة إدلب حدثاً مفصلياً، بمقتل 34 جندياً من الجيش التركي بضربة جوية في منطقة بليون بالريف الغربي. اتهم نظام الأسد بالوقوف ورائها آنذاك، ليكون بذلك أمام مواجهة هي الأولى من نوعها والأكبر وجهاً لوجه مع القوات التركية.
أيام ثلاثة مضت حينها على الحادثة، لتبدأ مواجهة غير مسبوقة بين النظام وتركيا، بعد إعلان الأخيرة إطلاق عملية عسكرية سميت بـ”درع الربيع”، وكان الهدف منها إعادة قوات الأسد إلى حدود اتفاق “سوتشي”، وردعها بعد مقتل الجنود الأتراك.
استهدفت القوات التركية خلال الأيام الأولى من “درع الربيع” مقاتلات النظام، وأنظمته الدفاعية والمدافع والدبابات، وأخرجت عدداً من مطاراته العسكرية من الخدمة، وأسهم ذلك في تقدم فصائل المعارضة جزئياً على الأرض.
Askerlerimizin İdlib'te Rusya ve Rejim tarafından şehit edilmesinin ardından ANKA ve Bayraktar SİHA'lar Rejim hedeflerini vurmaya başladı.
PART-1 pic.twitter.com/bgfLnOGz5K
— Second ARMY (@SecondARMY____) February 26, 2021
وفي سياق العمليات العسكرية التي وصفت بأنها ذات زخم كبير لم يسبق وأن شهدتها إدلب، فرضت تركيا معادلة جديدة في سماء المحافظة، وفي ميدانها على الأرض. وبينما أثبتت قدرة سلاح الطيران المسير (طائرات بيرقدار) والحربي، تمكنت تركيا من وقف تقدم قوات الأسد المدعومة من روسيا، والتي كادت أن تصل إلى أبواب إدلب المدينة من الجنوب.
وفي تصريحات له بعد إطلاق “درع الربيع” بأيام، قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، إن خسائر نظام الأسد في الأيام الأولى للعملية العسكرية شملت تدمير مسيّرة/ طائرة بدون طيار وثماني مروحيات و103 دبابات وثلاث منظومات دفاعية.
بالإضافة إلى 72 مدفعاً، و”تحييد” 2212 من قوات الأسد، وفق آكار، وهي خسائرٌ “قاسية” لم تشهدها قوات الأسد في الشمال الغربي لسورية، منذ انسحابها من إدلب في مطلع عام 2015.
“سوتشي معدّل لرسم الحدود”
في مقابل ما فرضته القوات التركية في سماء إدلب وأرضها، في مارس/آذار 2020، وصلت العلاقات بين أنقرة وموسكو إلى حد التوتر، خاصةً أن الضربات التي نفذتها الطائرات المسيرة التركية استهدفت منظومات تتبع لروسيا، كانت منتشرة في محيط إدلب، من نوع “بانتسير- إس1”.
التوتر أيضاً كان له ارتباطات بالضربة الجوية التي أسفرت عن مقتل الجنود الأتراك، والتي ورغم اتهام نظام الأسد بالوقوف ورائها، إلا أن روسيا لم تخرج من دائرة الاتهام التركية أيضاً، حتى وإن لم تذكر بالاسم في ذلك الوقت.
ما سبق كان دافعاً لاجتماع الطرفين (أنقرة، موسكو)، وهو الأمر الذي حصل بالفعل، إذ غادر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى روسيا لبحث ملف إدلب وريفها مع نظيره، فلاديمير بوتين، برفقة كبار المسؤولين، وذلك في الخامس من مارس/آذار 2020.
توصل أردوغان وبوتين بعد القمة التي جمعتهما إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، في محافظة إدلب، وجاء بوصفه ملحقاً لاتفاق سوتشي لعام 2018.
اشتمل الاتفاق الذي أُعلن عنه، في ختام اجتماع استغرق ست ساعات، وقرأه وزيرا خارجية البلدين في مؤتمر صحفي مشترك، على ثلاث نقاط رئيسة: أولها وقف إطلاق النار ابتداءً من منتصف ليلة 6 آذار/ مارس 2020، وإنشاء ممر آمن على طول الطريق الدولية حلب – اللاذقية “إم 4″، بعمق 6 كيلومترات شمال الطريق ومثلها جنوبه.
أما النقطة الثالثة فهي الاتفاق على بدء تسيير دوريات مشتركة روسية – تركية على الطريق الدولية من بلدة الترنبة (الواقعة غرب سراقب)، وصولًا إلى بلدة عين حور (الواقعة في ريف اللاذقية) بحلول 15 آذار/ مارس.
دوريات مشتركة وخروقات
11 يوماً مرّت على قمة بوتين- أردوغان لتبدأ قوات الطرفين بتسيير أولى الدوريات المشتركة على الطريق الدولي “إم فور”، في السادس عشر من آذار /مارس 2020، وهي خطوة انسحبت لتتجاوز الـ14 دورية مشتركة، على طول الطريق من الترنبة إلى عين حور في ريف اللاذقية.
وعلى عكس ما تم الاتفاق عليه لم تتمكن أنقرة وموسكو من إكمال تسيير الدوريات، أو الانتقال إلى تنفيذ باقي بنود “سوتشي المعدل”، على خلفية عدة أسباب، في مقدمتها الهجمات التي تعرضت إليها الدوريات من مجموعات “مجهولة”، بالإضافة إلى الخروقات المستمرة من جانب قوات الأسد.
وطوال الأشهر الماضية لم تتوقف التصريحات الخارجة من أنقرة وموسكو بشأن إدلب، وبمجملها صبت في تعزيز صورة ضبابية لما سيكون عليه مستقبل محافظة إدلب، أو آليات تطبيق باقي بنود “سوتشي”.
وفي المقابل لم تنقطع اجتماعات الطرفين، عن طريق وفودهما، لبحث ما تشهده المحافظة من أعمال ميدانية وعسكرية على الأرض.
“من المراقبة إلى الدفاع”
النقطة اللافتة التي ميزّت مرحلة ما بعد “درع الربيع” هي الوجود العسكري التركي في إدلب، والذي انتقل من استراتيجية “المراقبة” إلى استراتيجية “الدفاع”، وذلك تزامناً مع انسداد أي أفق في سبيل تنفيذ بنود اتفاق “سوتشي المعدل”.
ومن الدفاع إلى المراقبة اتجه الجيش التركي لسحب جميع نقاط المراقبة التي نشرها في محيط إدلب، بموجب تفاهمات “أستانة”، والتي باتت محاصرة بشكل كامل، بعد التقدم الأخير لقوات الأسد في ريفي إدلب الشرقي والجنوبي، وفي ريف حلب الغربي أيضاً.
وفي مقابل الانسحاب استقدم الجيش التركي حشوداً عسكرية غير مسبوقة إلى بوابة إدلب من الجنوب، وهي المنطقة المعروفة بجبل الزاوية، والتي تضم عشرات البلدات والقرى الواقعة في الريف الجنوبي للمدينة.
الحشود تمثلت بأسلحة ثقيلة ومتوسطة ودبابات وعربات مدرعة، بالإضافة إلى عناصر القسم الأكبر منهم من قوات “كوناندوز”، ووفق إحصائيات غير رسمية فإن عددهم يفوق 6000 عنصر، وجميعهم منتشرون في قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي.
واليوم وفي الذكرى الأولى على انطلاقة عملية “درع الربيع”، باتت الحشود العسكرية التي استقدمتها تركيا إلى بوابة إدلب الجنوبية، بمثابة جدار دفاعي من شأنه أن يعيق أي تقدم لقوات الأسد والميليشيات المساندة لها، سواء الموالية لروسيا أو إيران.
من جانبها تصر موسكو على اعتبار إدلب “بؤرة ساخنة”، وهو مصطلح تردد كثيراً في الأشهر الماضية على لسان المسؤولين الروس، والذين يؤكدون على ضرورة إبعاد فصائل المعارضة من طرفي الأوتوستراد الدولي، تمهيداً لفتحه أمام المدنيين وحركة القوافل التجارية.
“لم ترسم الحدود بعد”
أمام ما سبق من حشود مايزال الجيش التركي يدفع بها إلى إدلب، وما يقابلها من تعنت روسي بضرورة فتح الطريق الدولي، تبقى حدود اتفاق “سوتشي” الأخير غامضة، سواء بتثبيتها وفق الخرائط المفروضة على الميدان حالياً، أو تغييرها مستقبلاً.
وكانت محافظة إدلب حاضرة مؤخراً في محادثات “أستانة 15” في سوتشي الروسية، والتي اتفقت فيها “الدول الضامنة” للمسار (تركيا، روسيا، إيران) على ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار.
لكن “وقف إطلاق النار” لم يدم طويلاً لتستأنف الطائرات الروسية، منذ 24 من فبراير / شباط 2021 قصفها لمناطق ريف إدلب الجنوبي، وهي المناطق التي تتموضع فيها النسبة الأكبر من القوات التركية.
الضربات الجوية لا تخرج من إطار الضغط الذي تريد موسكو فرضه على مشهد المحافظة، وصولاً إلى تحقيق ما تبتغيه، وهي سياسةٌ كانت قد لازمتها منذ التدخل الأول في أيلول / سبتمبر 2015، وحاولت المضي فيها عسكرياً وسياسياً.