وصل قطار التطبيع إلى قبرص أولاً ثم إلى حميميم ثانياً. المحطة الأولى بين الوفدين، الإسرائيلي والسوري، كانت هناك. والثانية في سورية إذاً. حين يكون في حميميم، فهو مع نظام دمشق، أي إن إسرائيل لم تعد تُحلّق في سماء سورية وتصطاد على أرضها المواقع الإيرانية أو التابعة لحزب الله أو للنظام السوري، بل أصبحت تتفاوض، أو تتواصل على الأرض أيضاً. هي جولاتٌ يكتنفها الغموض الشديد، حيث إدارة التفاوض بخصوص التطبيع مع النظام السوري ليست بسيطة، ومعقدة بدرجة تعقيد الوضع السوري ومستقبل النظام؛ وإذا كانت كل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب بعيدة عن إسرائيل، فإنّها وسورية متتاخمتان، وهناك الجولان المحتل، والمفاوضات السابقة بينهما، وهناك أيديولوجيا كاملة عن ممانعة التطبيع. ويضاف إلى كل ما سبق وجود دولة وازنة لم تُطبّع، السعودية. ولا يجوز إهمال التحالف التاريخي بين النظام السوري وإيران، وبالتالي من التسرّع بمكانٍ إطلاق الأوهام، وأن إسرائيل هي الممانعة، بينما النظام السوري هو المحبّ الراغب في التطبيع. هذه خفة في القول؛ فإسرائيل تعلم أن القطار أعلاه مع الأنظمة، وليس مع الشعوب، وإذا وضعنا في الذهن أيديولوجيا النظام وتحالفاته، وألف تعقيد آخر، يصبح التطبيع يتطلب شروطاً، ليس أقلها وضع الجولان مستقبلاً، أي كيف سيكون شكل السيطرة عليه، وكيفية تقاسمه بين “الدولتين”؛ الكيان المحتل والنظام السوري (وإن نفى رسمياً اجتماع حميميم).
يتعجل بعضهم بالقول إن التطبيع ضرورة للنظام في سورية، فهو في أشدِّ حالات الضعف، وإن شرعنته مجدّداً تقتضي التطبيع، حيث ستتولى إسرائيل ذلك عند أميركا كما فعلت مع السودان مثلاً. يَشتهر النظام بتضييع خصمه في متاهة التفاصيل، كما كان يؤكد وزير الخارجية الراحل، وليد المعلم، ومن عاداته ألّا يتعجل في قضايا خطيرة، تكشف عورته كاملةً، أي التطبيع. وعدا ذلك، هناك الخلاف الروسي الأميركي بخصوص الموقف من مستقبل النظام ومن كليّة الوضع السوري، ونقصد أنه ليس من مصلحة روسيا تحقيق التطبيع الذي تشرف على المفاوضات بخصوصه، ولا سيما أنه لن يعود عليها بفائدة كبرى، فإسرائيل، مع الأخذ بالتوافقات الكبيرة بينها وبين روسيا، تُقيم حساباتها الدقيقة وفقاً للسياسة الأميركية، وفي هذا لنلاحظ إدخالها تحت القيادة العسكرية الوسطى لأميركا أخيراً.
استهلكت بعض المعارضة السورية بعض الوقت في نقاشٍ خاطئ من أصله، ويتحدّد بكيف نجعل إسرائيل تدعمنا ولا تدعم النظام. قد يكون هناك “علاقات استخباراتية” بين النظام وإسرائيل، والمعلومات عنها شحيحة، وإذا تجاوزنا هذه الفكرة، فكيف لكيانٍ محتلٍ أرضاً عربية أن يدعم ثورة شعبية، هي امتداد لأهل تلك الأرض المحتلة؟ أليس هذا هو العبث بعينه، إذاً لا علاقة للثورة ذاتها بذلك النقاش، وبمن زار إسرائيل متوهماً أنّه سيفكّك أواصر العلاقة تلك، وسيعقد معها زواجاً كاثوليكياً، تنصره إسرائيل عبره وتساهم في إسقاط النظام.
لا يرفض النظام المفاوضات مع إسرائيل، ولكنه يضع لها شروطاً، وهو متمسّك، كما بعض الدول العربية بمبادرة القمة العربية 2002 في بيروت، حيث الأرض ما قبل احتلال عام 1967 مقابل السلام. وضمن ذلك، ونظراً إلى تعقد وضعه، يمكنه أن يُجري مفاوضاتٍ ليس في حميميم، بل في دمشق ذاتها. ولكنه، كما ذكرت، لن يطبع من دون شروطٍ، أقلّها تعيد سيادة معينة على الجولان، وهو ما كان له في مفاوضاتٍ قديمة مع الأسد الأب، وكان الاختلاف على بعض التفاصيل. وضعه الجديد لن يدفعه إلى غير ذلك، ولن يُسلّم بورقة التطبيع بسهولةٍ، ولا سيما أن علاقته متينة بإيران وحزب الله بالتحديد، وأيديولوجيته تمنعه من ذلك.
ذكر الصديق سلامة كيلة مرّةً، أنه هو من أطلق اسم الممانعة على النظام السوري، قاصداً أنّه لا يرفض التطبيع بشكل قاطع، ولكنه يمانع وهو راغبٌ فيه، وأن ممانعته مشروطة، وبتحقّقها صلى الله وبارك. للتوضيح: طبّعت بعض دول الخليج، ولكن السعودية اكتفت بفتح مجالها الجوي للطائرات الإسرائيلية، وعقد محادثات مع وفود من هذه الدولة، ولكنها لم تُطبّع. القصد هنا أن حسابات الدول الوازنة معقدة، ولهذا تتأخر عن إنجاز ذلك، وتريد تهيئة الأرض كاملة.
لو انطلقنا من زاوية إسرائيل، والسؤال لماذا ستتعجل بالتطبيع مع نظامٍ ليس مستقبله مضموناً، وبلاده محتلة، ولدى شعبه نزعة شديدة لرفضها، وسيتأخر كثيراً التطبيع مع الشعب السوري، وقد لا يكون كما حال أهل مصر والأردن والفلسطينيين. أغلب الظن أن مفاوضات قبرص وحميميم تخصّ ترتيبات أمنية كثيرة من نظامي تل أبيب ودمشق، ولكن لن يكون هناك تطبيع قريب بينهما.
قد نجد هوىً لدى بعض السوريين تجاه روسيا أو تركيا أو إيران، بل وحتى أميركا، ولكن لن نجد هوىً نحو إسرائيل، طبعاً نستثني بعض الأفراد هنا وهناك، وربما لدى تياراتٍ في النظام ذلك الهوى، وبقصد تلك الشرعنة، وربما لدى فئاتٍ في المعارضة. إسرائيل ستظل كياناً غاصباً واستيطانياً لدى الشعوب العربية، ولن يتحقّق لها تطبيع حقيقي قبل أن تنصف الفلسطينيين، وهذا لا يساوي أن تلك الشعوب داعمة للفلسطينيين كما كانت في عقود سابقة. لا أقصد ذلك، ولكن استيطانية إسرائيل وعنصريتها وكل سياساتها تجاه فلسطين، والعرب عامة، تمنع ذلك التطبيع؛ هي مشكلة تخصّ إسرائيل أولاً؛ فهي ذاتها لا تستطيع أن تبدّل هويتها، وتلغي صهيونيتها، وتبني مع الفلسطينيين دولة واحدة، وبالتالي قطار التطبيع خاص بالأنظمة، ولن يصعد إليه النظام السوري منفرداً، بعد أن أستعجل أشقاء له ذلك.
لإسرائيل الآن، وبتوافقٍ أميركي روسي، وربما تركي أيضاً، كامل الحق بمتابعة أية أخطار محدقة بها من الأرض السورية، وهذا لن يتطلب توافقاً مع النظام السوري، ورفضه من الأخير لا يغير من المعادلة شيئاً. التطبيع العلني لن يكون قبل جلاء أفق الوضع السوري، الذي لم يستقر بعد، وما زالت الحاجة ماثلة للإيرانيين، وأقصد تحالفهم مع روسيا، ومتابعة خيارهم المشترك بخصوص الوضع السوري. أميركا وأوروبا ما زالتا بعيدتين عن الخيار الروسي للوضع السوري، والروس لم يتقدّموا بعد بصفقةٍ جديدة مع الأميركان. وأغلب التحليلات ترجّح خلافاتٍ أقوى في المستقبل بين روسيا وأميركا، وهذا لا يخدم قضية التطبيع، بل قد تتراجع حمّى التطبيع الذي تمّ في الأشهر الأخيرة كذلك، وبالطبع لن تطوى صفحته. إذاً، التغيير الجديد في الإدارة الأميركية سيتبعه تغيير في السياسات تجاه المنطقة، وهذا لا يفترض التطبيع أولوية، ولا سيما أن التفاوض مع إيران سيكون ضمن تلك الأولويات، وهذا يفترض هدوءاً في سرعة قطار التطبيع.
إذاً ليس من تطبيعٍ راهن بين إسرائيل والنظام الممانع في سورية، والقضية ما زالت تخص مستقبل الجولان أولاً ووضع النظام وفكفكة تحالفاته الإقليمية وأيديولوجيته وقضايا أخرى ثانياً.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت