إسرائيل لا تشفع للأسد في واشنطن
قبل يومين، أعلنت “المقاومة الإسلامية في العراق”، في بيان مصوَّر على تلغرام، مسؤوليتها عن استهداف موقع عسكري إسرائيلي في الجولان السوري المحتل مستخدمةً طائرات مسيّرة. إعلام الأسد لم يحتفل بهذا الاستهداف، ولو باعتباره ردّاً على الغارات الإسرائيلية على مواقع تُعدّ شكلياً تحت سيطرته. وكالة سانا، على سبيل المثال، أبرزت خبراً آخر يعود لليوم نفسه، هو انتخاب مندوب الأسد لدى الأمم المتحدة مقرِّراً للجنة تصفية الاستعمار في المنظمة الدولية.
بصرف النظر عن عدم أهمية اللجنة المذكورة، شأنها في ذلك شأن معظم لجان الأمم المتحدة، فالمفارقة الفادحة أن يترأسها مندوب سلطة استجلبت احتلالين، وتسببت باحتلالين آخرين، وورثت خامساً كان عزيزاً عليها. وقد قيل الكثير في موقف الأسد الأب ثم الابن من الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وهناك بين السوريين من يتهم الأول منهما بتقديمه هدية للمحتل في حزيران 1967، لكن من المؤكد أنه رفض استعادة الجولان حتى الحدود الدولية بموجب الوساطة الأمريكية التي توقفت في أواخر آذار 2000.
صمتُ الأسد عن هجمات “المقاومة الإسلامية في العراق” من أماكن سيطرته لا يعكس اتفاقاً بين الجانبين ولا تقاسماً للأدوار، ومن المفهوم أن هذه المقاومة تتبع طهران التي تتعرّض مواقعها في سوريا لغارات وهجمات صاروخية إسرائيلية. ورغم كون القرار إيرانياً في المقام الأول، يبقى من المستغرب غياب وتغييب الأسد نهائياً عن الواجهة. فالغياب عن حدث مؤثّر بالغ الأهمية هو بمثابة إعلان استقالة من الممانعة ذاتها، وتفسير الغياب بحالة الضعف الشديد لا يفي بالغرض لأن استثمار الأسد في العداء لإسرائيل لم يقترن يوماً بقدرته على مواجهتها.
في واحد من مستوياته، ربما يكون إعلان الاستقالة رسالةَ توددٍ لإسرائيل، ومن المرجَّح “إذا كان الأمر كذلك” وجود توافق ثلاثي على تحييد الأسد، يجمع بين الأخير وموسكو وطهران، وغايته الإبقاء على موقف إسرائيل الداعم لبقائه في السلطة. لكنه أيضاً تفسير لا يشرح وحده التبدل الذي طرأ، وجعل الأسد يستقيل من خطاب الممانعة رغم بقائه في الحلف إياه.
منذ انقلاب الأسد الأب واستلامه السلطة، بل منذ الانقلاب على المسار الديموقراطي بعد الاستقلال، كانت الشرعية الثورية “وهي توأم للمقاومة ثم الممانعة” بديلاً عن الشرعية الشعبية المفتقدة. ذلك يتعلق باستبداد لم يكتسب شرعيته يوماً عبر صناديق الاقتراع، وهو الأدرى بزيف التمثيليات الانتخابية وزيف الدساتير التي وضعها. وقد قيل الكثير عن زيف خطاب المقاومة والممانعة، إلا نسبة ملحوظة مما قيل كان أصحابها يهدفون إلى تجريد الأسد من أحقيته بهذه الشعارات، من دون تركيز كافٍ على طبيعة الاستثمار الذي يتوسّل الشرعية من الخارج على حساب الداخل، وهذا نهج لا يتوقف عند إسرائيل، بل لم يتوقف عندها في الواقع.
لا ينفي ما سبق، بل يؤكد عليه، أن الأسد الأب ثم الابن عمَدا في مناسبتين فقط إلى طلب شرعية ما “جزئية” من الداخل. أولهما في المواجهة بين الأب والإخوان المسلمين، ومن المعلوم أن طلب الدعم حينها من قبل الأسد كان يضمر تقسيماً طائفياً تولى الإخوان طرحه علناً. في عهد الابن، بدءاً من آذار 2011، تولى إعلامه تسويق تلميحات طائفية وهو يطلب دعما لا لبس في طائفيته، بينما كان شبيحته أكثر وضوحاً ودموية. في المناسبتين، كان طلب “الشرعية” من الداخل محمولاً على انقسام السوريين وتقسيمهم، أي أنه كان في الواقع طلباً لحرب أهلية لا للشرعية.
يعزّز ما سبق تراجعُ إعلام الأسد الابن عن التلميحات الطائفية عندما أحسّ بالاطمئنان إلى بقائه في السلطة، وليس من المصادفة إطلاقاً أن يأتي الاطمئنان مرة أخرى عبر الدعم الخارجي، لكن مع اختلاف جدير بالملاحظة؛ انتصر الأب أساساً بجيشه ومخابراته، بينما انتصر الابن بطهران وموسكو. هو تحوّل يمكن ترجمته بالانتقال من اعتبار الخارج مصدراً للشرعية، والقدرة على الاستثمار فيه، إلى توسّله كمصدر للحماية. إن عدم حضور الأسد “ولو شكلياً” في واجهة حلف الممانعة خلال الشهور الأخيرة يقع ضمن التحول المذكور، فخطاب معاداة إسرائيل لم يعد يقدّم الفائدة القديمة؛ ليس بسبب انكشافه وتهافت شعاراته، بل لأن الوجهة الاضطرارية للمستثمِر صارت في مكان آخر، وبمعطيات مغايرة تماماً تجرّده من أهليته كمستثمر.
نتيجة لذلك، إذا كان من رسالة لإسرائيل في غياب الأسد عن الواجهة فهي تفترق عن منطق الممانعة الذي يستثمر في العداء لإسرائيل، لتنضوي ضمن منطق طلب الحماية سياسياً، فتستكمل إسرائيل عمل موسكو وطهران. ومن المرجَّح أنها رسالة مزدوجة، إذ تهدف “عبر التودد لإسرائيل” إلى الوصول إلى أصدقائها ضمن النخبة السياسية الأمريكية، والموزّعين على الحزبين الجمهوري والديموقراطي.
يوم الأربعاء الماضي، أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون “مناهضة التطبيع مع الأسد” الذي بدأ يسلك المسار التشريعي منذ أيار 2023. المشروع أُقرّ بأغلبية 389 صوتاً مقابل 32 صوتاً للمعترضين، منهم 28 من الحزب الديموقراطي. هذه الأغلبية فيها مؤشّر واضح على توجهات النوّاب من الحزبين، والتي قد لا تتطابق دائماً مع توجهات البيت الأبيض العلنية أو غير العلنية. وجدير بالتذكير أن قانون قيصر للعقوبات صدر قبل خمس سنوات بموجب الآلية ذاتها، وأُلِحق بمشروع قانون الموازنة لضمان التوقيع عليه من قبل الرئيس ترامب آنذاك.
في الخلفية، كان مشروع “مناهضة التطبيع مع الأسد” قد انطلق في العام الماضي كردّ على التطبيع العربي معه، ومن أجل ردع بعض المطبّعين العرب عن الشطط في دعمه مالياً. ويمكن تأويل ما يتضمنه التشريع بأن الأسد قادر على البقاء بحماية حليفيه ورضا واشنطن وتل أبيب، أما حيازة الشرعية من الخارج التي تعني تطبيعاً دولياً معه فلها مصدر وحيد، أي واشنطن. ومن الواضح أن إسرائيل ومناصريها في الولايات المتحدة لم يشفعوا للأسد في واشنطن، من أجل عرقلة مشروع القانون، أو عدم نيله عدد ضخماً من أصوات المؤيدين.
يوحي أولاً غياب الاشتباك، من أي نوع، بين الأسد وإسرائيل بأن كل شيء على ما يرام بين الطرفين. إلا أن المياه الصافية والراكدة بينهما قد لا تكون لها دلالة إيجابية لصالح الأسد نفسه، والأقرب إلى الواقع أنه لم يعد يُنظر إليه في تل أبيب كـ”شريك” يمكن الاشتباك معه في مستوى ما والتسوية في مستوى آخر. بالطبع هذه ليست بشرى سارة له، ولا يُستبعد أن تكون سارة لحُماته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت